عانى كثيرون بعد ما كان يعرف ب "الربيع العربي" من ضبابية الرؤية وغموض الأحداث والتباسات الوعي، والأمر لا يزداد مع الأيام لمن اختار التفكير بالقلب لا بالعقل إلا غموضاً والتباساً. من ضمن المعطيات الجديدة الدخول القويّ للتيارات الإسلامية على المشهد السياسي، بل فوزها بأكثرية الأصوات التي تقنع الواهمين بأن الديمقراطية هي "صناديق الاقتراع" فحسب، وقد ثبت حينذاك أن كثيراً ممن يسمون مثقفين أو إعلاميين لا يعلمون شيئاً عن طبيعة خطاب وتاريخ هذه التيارات وطبيعة الجوامع والفوارق بينها، وقد تراجع بعضهم، وطوّر بعضهم معارفه، وبقيت بقية على عمائها الذي اختارته وغيها الذي تحسبه رشداً. اليوم، وبعد إسقاط حكم جماعة "الإخوان المسلمين" والموقف الذي أعلن عنه حزب "النور" السلفي يجب توضيح الصورة أكثر لمن لا يمتلك خلفية كافيةٍ للمعرفة والفهم وغير المتخصص بشكلٍ عامٍ. جماعة "الإخوان المسلمين"، هي جماعة سياسية تستغل الدين لخدمة أهدافها السياسية، وتستغل مفاهيمه ومصطلحاته لتصل للسلطة أو تزيد من الاستحواذ عليها، وهي أخطر جماعات الإسلام السياسي وأكثرها مكراً وأشدها كيداً، أما "السلفية" فهي تيارات متعددة الأصل فيها الاهتمام بالعقيدة والابتعاد عن السياسة، ولكنها تطوّرت لاحقاً وبالتماس مع جماعة "الإخوان المسلمين" وخطابهم فأخرجت عدة توجهات من أهمها "السلفية الجهادية" التي تتبنى العنف صراحةً تحت مسميات "الجهاد" مثل تنظيم "القاعدة"، و"السلفية السياسية"، والتي تندرج تحتها تيارات وأحزاب خلطت بين المحتوى العقدي للسلفية والمحتوى السياسي لجماعة "الإخوان المسلمين"، ومن ذلك تيار "السرورية" نسبةً لمحمد سرور زين العابدين، والتيارات التابعة لعبدالرحمن عبدالخالق، وبعض تلاميذ محمد قطب السعوديين والخليجيين ومن تبعهم في باقي البلدان العربية. في المشهد المعاصر بمصر هذه الأيام يمكن تطبيق هذا التقسيم هناك، فجماعة "الإخوان المسلمين" لم تزل على خطها القديم وأيديولوجيتها العتيدة، أما حزب "النور" السلفي فهو ينتمي للسلفية السياسية مع تأثرٍ أكبر بالخطاب السلفي، أما الجماعة الإسلامية، فهي تمثل خطاب "السلفية الجهادية" ولم يزل رموزها المتحالفون مع "الإخوان" يهددون الشعب المصري بإعادة إشعال جذوة العنف من جديد، وهم يمجدون القتلة والمجرمين من رموزهم السابقين. مع استحضار الموقف المبدئي ضد الأحزاب الدينية في السياسة، فإن حزب "النور" السلفي منذ الإعلان عنه وعلى الرغم من المحتوى السلفي القوي في خطابه أثبت أنه أكثر وعياً بالواقع السياسي في مصر من جماعةٍ تجاوزت الثمانين عاماً، وهي تطمح للسلطة وتزعم الحكمة في السياسة، سواء في الانتخابات، أو في الموقف من الإعلان الدستوري أو في كتابة الدستور، وصولاً لأحداث 30 يونيو وإسقاط سلطة "الإخوان" والموقف بعدها. موقفان جديدان خرجا من حزب "النور" السلفي جديران بالتأمل والتعليق، الأول وثيقة سرية لحزب "النور" السلفي، والثاني بيان لياسر برهامي القيادي بالحزب، وفي الوثيقتين نجد خطاباً سلفياً شبه صرفٍ في النظرية السياسية يتحدث عن "الشوكة" و"الغلبة" والإمام "الممكّن" ونحوها، وينعى على مستوى الوعي السياسي تخبطات جماعة "الإخوان" في كل ما صنعوه بعد ما كان يعرف ب "الربيع العربي". الأهم في الموقفين هو الردّ القويّ على السروريين والسلفيين الخليجيين الذين انجروا خلف الدعاية "الإخوانية" وتبنوا الخطاب "الإخواني" بحماسةٍ ربما فاق بعضها مواقف الجماعة الأم بمصر، وقد قالت الوثيقة عن ذلك ما نصه: "إلا أن الأمر ازداد بدخول كثير من الدعاة إلى الحلبة لينشروا بيانات زاعمين فيها تبرأ علماء السلفية من حزب "النور، مع أن كثيرًا منهم من جماعة "الإخوان"، وكثيرٌ منهم من التنظيمات السرورية. وإن كانت النصيحة مقبولة من كل أحد؛ فنريد أن نذكر دعاة الاتجاه السروري أنهم رفضوا كثيراً من فتاوى علماء ومشايخ كانوا يعدونهم أئمة العصر؛ بدعوى جهلهم بالواقع، فلماذا يتسرعون ها هنا بالكلام على واقع لا يدرونه؟!". كما جاء في بيان ياسر برهامي ما نصه: "وعذراً لمن هم خارج البلاد من المشايخ والدعاة، لم يكن لكم أن تتورطوا في الإفتاء على واقع لا تعلمونه اعتماداً على نقل من توالونه ولم تسمعوا ممن خالفه، فعسى أن تعيدوا النظر". لقد انخرط "إخوان" الخليج و"سروريوه" وسلفيوه المسيّسون في الحدث المصري، وتبنوا جميعاً خطاب جماعة "الإخوان المسلمين" المتشدد وغير الواقعي جملةً وتفصيلاً، وقسموا الشعب المصري لإسلاميين من جهةٍ أو كفار ومنافقين من جهةٍ أخرى، وقد جاء موقف حزب "النور" السلفي ليفضح هؤلاء الخليجيين عقدياً وواقعياً بعدما فضحوا أنفسهم سياسياً ومن هنا فلا غرو أن تقوم دول الخليج بإجراءاتٍ قانونيةٍ أو نظاميةٍ رداً على هذين الافتضاحين. لقد اندفع "إخوان" الخليج بعيداً خلف تأييد جماعة "الإخوان المسلمين" الأم بمصر، وكشفوا أنفسهم أكثر بعد عزل الجماعة عن حكم مصر، واليوم، بدأت السعودية مع توسع نفوذها الإقليمي ومركزها الدولي تتجه لتوحيد الجبهة الداخلية، وها هي تتخذ إجراءات تنفيذية للسياسة المعلنة في الخطاب التاريخي للملك عبدالله وولي عهده تجاه العناصر "الإخوانية" والموالية ل "الإخوان" في البلاد. من يتخذ مواقف معلنةٍ ضد بلاده في القضايا الاستراتيجية التي تهدد الأمن القومي يعتبر بالتعريف خائناً، والخائن يعاقب بالقانون والنظام، وتاريخ الدول القديمة والحديثة زاخر بنماذج لذلك، واصطفاف "إخوان" الخليج مع "إخوان" مصر ضداً لسياسات بلدانهم يدخل في هذا التوصيف. في الوثيقة كما في خطاب برهامي نقد عميق لمواقف وسياسات جماعة "الإخوان" المسلمين، وتوضيح لتناقضاتها وإبراز لفشلها في قيادة الدولة ورفض للمبررات الدينية التي تسوقها الجماعة لتبرير فشلها الذريع وأخطائها الفادحة وتبرير لغضب طبقات الشعب المصري منها، وازدراء مستحق بمن يزعم أن الخبرة السياسية لجماعات الإسلام السياسي مكتسب خاص بجماعة "الإخوان المسلمين"، واستنكار للتكفير، وأي تبرير للعنف في سيناء وغيرها، وهو تطور يجب رصده في خطاب الحزب الناشئ. وقد طالب "برهامي" مكتب الإرشاد في جماعة "الإخوان المسلمين" بالاستقالة، وفعل الأمر ذاته مع مجلس إدارة الدعوة السلفية، وهو أمر يعدّ من الكبائر لدى جماعة "الإخوان المسلمين"، التي يسيطر عليها تلامذة سيد قطب المتطرفون. أخيراً، إن تمحيص المسميات وفرز المصطلحات، ومراعاة الانتقال بين الجمع والتفريق، ورصد التشابه والاختلاف، كلها مفيدة في تقديم توصيف أدق وقراءة أعمق.