فبركة مؤامرة وهمية للقبض على السياسيين والإعلاميين المعارضين افتعال حوادث عنف لإبعاد الشعب عن الشارع وإبعاد الجيش عن حمايتهم
تعيين السيسى رئيسا للحكومة لحرقه ونزع قوته ووضعه وجها لوجه أمام الثورة
منذ شهور قليلة شهد القصر الجمهورى اجتماعا ساخنا.. تصدره الدكتور محمد مرسى.. وجلس حوله بعض مساعديه.. وضباط كبار يمثلون أجهزة أمنية مؤثرة.. بجانب وزير العدل السابق المستشار أحمد مكى.
كانت رائحة الشياط تخيم على الاجتماع.. فالرئيس غاضب من الانتقادات الحادة التى توجه إليه.. ولا يريد الاعتراف بأن لها أصلاً من الحقيقة.. فاستراح أكثر لنظرية المؤامرة.. نظرية مريحة.. ترطب على قلب الحاكم.. وتقنعه بأنه ملاك منقذ وموهوب.. وخصومه شياطين.. مأجورون.. ومجرمون.
خرج صوت يطالب بالبحث عن وسيلة للسيطرة على الإعلاميين.. وتعبير السيطرة فى هذه الحالة لا يعنى سوى البحث عن فضيحة.. فإذا لم توجد اخترعوها.. ودبروها.. ونشروها.
ولم يكن الاقتراح الذى خرج من شخص ينسب نفسه إلى أهل الله شاذا.. فالمثل الأعلى للإخوان المسلمين فى تركيا رجب طيب أردوغان، سبق أن فبرك فضيحة لزعيم حزب الشعب المعارض.. ووضع على شبكة الإنترنت فيلما سريعا.. يصوره فى وضع خاص مع سكرتيرته.. وبعد دقائق سحب الفيلم.. وخرج بيان من الحزب الإسلامى الحاكم يرفض ويستنكر.. «قتلوا القتيل ومشوا فى جنازته».
وخرج صوت آخر يطالب باعتقال السياسيين المعارضين.. وتحمس للفكرة أحمد مكى.. لكن مسئولى الأمن الذين سمعوها طالبوه بإصدار قرار الاعتقال.. ليكون عليهم التنفيذ.. وهو ما رفضه.. فهو لا يريد أن تنسب له هذه الجريمة البشعة المضادة للعدالة التى يمثلها.. وللقانون الذى يدافع عنه.. وللحرية التى يتحدث عنها.
ماتت المكيدة فى مهدها.. لكن.. نظرية المؤامرة بقيت حاضرة فى لسان الرئيس.. وتصريحات جماعته.. وادعاءات أنصاره فى حزب الوسط.. فمرة نسمع من قياداته عن تنظيم البلطجة الذى كونه عمر سليمان قبل رحيله عن الجهاز.. ومرة نسمع منهم عن رجال أعمال يمولون عصابات ستحرق مقار الإخوان.. ولم يقدموا دليلا واحداً على ما أعلنوه.. لكن.. «العيار الذى لا يصيب يدوش».. وأهل الله يسمحون لأنفسهم بالكذب أيضا.
ولولا الحياء لقلت ما سمعت أنا والدكتور حسام عيسى من قيادى فى الوسط عن فضائح الإخوان السياسية والشخصية.. لكن.. هذه الفضائح تبخرت أمام إغراء منصب.. أو مكسب مالى.. أو نفوذ سياسى.. فالأخلاق عند بعض المتأسلمين -مهما كانت درجتهم الجامعية- بضاعة قابلة للبيع والرهن والإيجار لأعلى سعر.
ولابد أن الجماعة الحاكمة والجماعات المناصرة.. المؤيدة.. المساندة.. تشعر الآن بنعيم السلطة، جاءت من البُرش إلى العرش.. لتسكن القصور بعد الزنازين.. وتنام على الحرير بعد الخيش.. وتكسب الملايين بعد التسول.. فكيف تضحى بذلك كله؟ لابد أن تعلن الجهاد فى سبيله.. وتهدد بالعنف للحفاظ عليه.. وأن تتحالف مع قتلة كى لا تفقده.
أمام ما فعلت حركة تمرد التى جمعت فى أسابيع قليلة أكثر من 15 مليون توقيع بسحب الثقة من محمد مرسى، شعر الرجل بأن ما فيه من ترف لم يكن ليحلم به هو وأهله وعشيرته سيزول.. سيتبخر.. سيتسرب من بين يديه.
حشدت أعدادا غفيرة من البشر أمام جامع رابعة العدوية تحت دعوى الحفاظ على الإسلام، كأن الذين سيخرجون إلى الشوارع والميادين يوم الأحد القادم سينادون بالكفر.. أستغفر الله.. خدعة جديدة.. تضليل فقد الكثير من بريقه.. ورغم أن شعار الحشد المغطى بلافتات دينية كان نبذ العنف، فإن كل من تكلموا فيه هددوا بالقتل والسحل والسحق وقطع الرءوس التى أينعت وحان قطافها.
رغم العروق النافرة والكلمات الساخنة والتهديدات الظاهرة والباطنة، فإن المشهد كشف عن مخاوف واضحة من الغضب الشعبى الكاسح الذى لم يعد يطيق سيرة الإخوان بعد أن فقد الثقة فيهم.
وقبل أن يجنوا ثمار حشدهم بأقل من 24 ساعة خرج هيثم فاروق رئيس نيابة محكمة جنح مستأنف الإسماعيلية، ليقول أمام الهيئة الموقرة فى قضية اقتحام السجون: «إن المحكمة استمعت على مدار جلسات إلى أقوال وشهود وحملت وقائع أقل ما توصف به أنها خيانة للوطن وغدر بشعبه وخسة فى الغاية من فئة لا يعرفون فى أعمالهم طريق الحق إلا بأقوالهم دون أفعالهم.. ليعلم الشعب ما حاق به من مكايد ومؤامرات بأيدى من يدعون أنهم من أبناء هذا الوطن وعملاء خارجه، فكان لازما علينا أن ندق ناقوس الخطر ليعلم الجميع أى جرم قد وقع».
وأضاف: «إننا نعيش مأساة حقيقة حين يتبين أن الدواعى المحركة لتلك المؤامرة لا تنبعث عن مجالات عقائدية بقدر ما تنطلق من قلوب مريضة أتلفها خمر السلطة.. فأبت أن تفيق من سكرتها ولم يكفهم أن يمتزج خمر السلطة فى كأسهم بدم آلاف الشهداء الذين سقطوا ووقفوا على أجسامهم لتمتد أيديهم إلى زمام الأمور».
لم يكن من الصعب معرفة من المقصود بكل هذه الاتهامات والتعبيرات الجريئة.. ولم يكن من سمعها وقرأها فى حاجة إلى وقت طويل كى يصل إلى الحقيقة.. ففى اليوم التالى كشف رئيس المحكمة المستشار خالد محجوب صحة ما جاء فى تحقيقات قضية الهروب من سجن وادى النطرون بأنه «كان مخططا لتهريب السجناء قام بتنفيذه حركة حماس وكتائب القسام وحزب الله بالاتفاق مع عناصر جهادية وسلفية وإخوانية».
إن هذه التشكيلات الدينية المسلحة «استغلت حالة التدهور الأمنى فى البلاد وهاجمت سجون المرج وأبوزعبل ووادى النطرون وهربت أيمن عبدالله نوفل ومحمد محمد الهادى من حماس وسامى شهاب من حزب الله ومحمد مرسى العياط وصبحى صالح وعصام العريان وسعد الحسينى ومحمد حامد وسيد حسين وسعد الحسينى وغيرهم من جماعة الإخوان».
واعتبرت المحكمة كل هؤلاء متهمين وطالبت النيابة بالتحقيق معهم وتكليف الإنتربول بالقبض على الهاربين منهم.. وحسب ما قال أمير سالم المحامى الذى «شال» القضية على كتفيه.. فإن الاتهامات تشمل استخدام قوة عسكرية أجنبية لتخريب منشآت عامة وقتل أبرياء وإثارة الرعب فى البلاد.. وهى جرائم يصل فيها الحكم إلى الإعدام.. لكن.. المشكلة على حد قوله فى النائب العام المعين من قبل أحد المتهمين وهو محمد مرسى.
بكلمات قليلة حاسمة خرجت من المحكمة انهارت مليونية الجماعة وأنصارها.. وأصبح فى السلطة رئيس متهم بجرائم تمس أمن الدولة.. ولو نجا من التحقيق فيها.. إلا لو حافظ على قسمه برعاية القانون والدستور.. وألا يكرر الحنث به من جديد بعد إعلانه الدستورى المشطوب عليه.
المؤكد أن محمد مرسى فقد أعصابه قبل أن يفقد مكانه.. وشعر بأنه دخل فى طريق مسدود.. الشعب فى الشارع يطالبه بالرحيل.. القضاء فوق منصته العالية يقدمه للنيابة.. الغرب بمخاوفه فقد الثقة فيه.. السلفيون بمقاطعتهم له ابتعدوا عنه.. فما الذى عليه أن يفعل ليخرج من الحصار الذى وضع نفسه فيه بتصرفاته وقراراته وكلماته؟
حسب تجارب وخبرات عملية وعلمية سياسية وأكاديمية عندما يجد حاكم نفسه فى هذه الحالة ولا يملك من الجرأة والحكمة ما يعيد زمام المبادرة إليه.. فإنه يلهث وراء نظرية المؤامرة.. يجرى إليها بالمشوار.. ربما تنقذه.. وتلقى إليه بطوق النجاة.
وفى التاريخ القريب لجأ أنور السادات لهذه النظرية ودبر مؤامرة 15 مايو على أركان السلطة الذين كانوا فى مناصبهم قبل رحيل جمال عبدالناصر.. وعندما اشتدت المعارضة له بعد توقيعه معاهدة الصلح مع إسرائيل عاد من جديدة إلى نفس النظرية وقام باعتقال 1500 شخصية سياسية وصحفية ودينية فيما يعرف بهوجة 5 سبتمبر 1981.. لكن.. من لم تشملهم قرارات الاعتقال الأهل والعشيرة فيما بعد هم الذين أطلقوا عليه النار.. وأردوه قتيلا.
ويوصف مثل هذا السيناريو بالسيناريو الأسود.. أو سيناريو النفس الأخير.. أو السيناريو الانتحارى.. ففى الحالة التى عليها غالبية الشعب المصرى الآن يمكن أن ينقلب السحر على الساحر.. ويأتى تنفيذ السيناريو بأثر عكسى.. بمزيد من الغضب على مرسى.
وحسب ما هو معهود ومعروف.. فإن خطوات هذا السيناريو يمكن أن تحدث بتتابع المشاهد التالية:
■ يضخم مرسى فى نظرية المؤامرة ويكشف عنها فى خطاب علنى يتحدث فيه عن قوى خارجية تمول قوى داخلية لإعادة إنتاج النظام السابق وضرب الثورة وهو ما يهدف إلى زعزعة الاستقرار وإشاعة الفوضى.
■ عند كلمة ما يقولها تنزل حشود من أنصاره وأتباعه إلى الشوارع قبل أن يسيطر عليها القوى الشعبية المتمردة.
■ فى نفس اللحظة يجرى اعتقال سياسيين وإعلاميين يرى النظام أنهم مثيرو الفتنة بتهمة المشاركة فى المؤامرة الوهمية.
■ ولضمان عدم معرفة الشارع بحقيقة ما يحدث يجرى مصادرة الصحف المستقلة واقتحام القنوات التليفزيونية المختلفة معه وربما تحطيمها.
■ ولا مانع من حدوث تفجيرات فى مقار حزب النور لاتهام قوى غير إسلامية بتدبيرها.. كما يمكن افتعال أحداث إرهابية فى أماكن متفرقة لإلهاء قوى الأمن والجيش عن حماية القوى الشعبية الرافضة للحكم.
■ يمكن فبركة تسجيلات تدين المعتقلين من شرائط التسجيل التى موجودة لهم فى الأجهزة.
■ ويتوقع فى هذه الحالة أن يفعل مرسى ما فعل السادات ويتهم قيادات أمنية وحكومية بالضلوع فى المؤامرة.
ولو كان السادات نجح فيما فعل أول مرة ودفع حياته ثمنا لنفس السيناريو آخر مرة فإن الظروف السياسية الداخلية والخارجية تغيرت تماما.. كما أن وسائل الاتصال أصبحت قادرة على نقل ما يجرى فى نفس اللحظة.. يضاف إلى ذلك الغضب العام فى الشارع الذى سيتضاعف لو نفذ السيناريو.
وما قد يفسد السيناريو أو ينسفه أو يعطله ما قاله وزير الدفاع عبدالفتاح السيسى مؤخرا.. فقد أكد أن «القوات المسلحة على وعى كامل بما يدور فى الشأن العام».. بما فى ذلك «حالة الانقسام داخل المجتمع» الذى يعد استمرارها «خطراً على الدولة».. وليست فى صالح المجتمع.
ووصف العلاقة بين الجيش والشعب بالعلاقة الأزلية «وهى جزء من أدبيات القوات المسلحة».. و«يخطئ من يعتقد أنه يستطيع الالتفاف عليها».. يضاف إلى ذلك: إن «إرادة الشعب هى التى تحكمنا ونرعاها بشرف ونزاهة» ومسئولون عن حمايتها.. «وليس من المروءة أن نصمت أمام تخويف أهالينا.. والموت أشرف لنا من أن يمس أحد من شعب مصر فى وجود جيشه».
ولو كانت القوات المسلحة تجنبت خلال الفترة السابقة الدخول فى المعترك السياسى إلا أن «مسئوليتها الوطنية والأخلاقية تجاه شعبها تحتم عليها التدخل لمنع انزلاق مصر فى نفق مظلم من الصراع أو الاقتتال الداخلى أو التجريم أو التخوين أو الفتنة الطائفية أو انهيار مؤسسات الدولة».
وكان السيسى قد التقى مرسى بعد هذه التصريحات.. ولكن.. شبه المؤكد أن هذا اللقاء جرى الترتيب له قبل أربعة أيام.. وحسب اجتهادات يمكن الوثوق فيها ربما يعرض مرسى على السيسى رئاسة الحكومة.. بعد أن رفض مكتب الإرشاد أن يتولاها محمد العريان.. الخبير المصرى المهاجر إلى الولاياتالمتحدة والقريب من مجموعة مستشارى البيت الأبيض.
ولو صدق عرض رئاسة الحكومة على السيسى.. فإن ذلك يعد تكراراً لعرض مبارك على طنطاوى رئاسة الحكومة أو ما شابه ذلك.. ولو وافق السيسى فإنه يكون كمن ينزع سلاحه ويلقى بمصدر قوته فى عرض الطريق.. كما أنه يناقض ما سبق أن صرح به بعدم تورط الجيش فى الحكم.. وقد بذل جهدا شاقا فى الشهور التى تلت توليه منصب وزير الدفاع فى إعادة تماسك القوات المسلحة واستعادة لياقتها البدنية والمعنوية.. تخلصا من آثار فترة حكم المجلس العسكرى عقب الإطاحة بمبارك.. كما أن قبوله منصب رئيس الحكومة بعد كل الفشل السابق ومع كل المتاعب القائمة سينقل سخط الناس إليه.. ويعيد للمشهد هتاف: «لا لحكم العسكر» وهو الهتاف الذى كان مؤلما له ولغيره من العسكريين.
إن مرسى فى مأزق.. وكل خياراته مفتوحة.. وفى الوقت نفسه.. خطرة.. وربما.. تنتهى بانتحاره سياسيا.. بعد أن انزلقت صورته شعبيا.
■ لو كان الشعب يعرف بأن إجراءات الاستفتاء على الدستور باطلة ما كان قد وافق عليه!