بحث الجميع عن سيرة ومسيرة الدكتور ثروت عكاشة أحد فرسان ثورة يوليو (1921 – 2012) الذى رحل الاثنين الماضى، عددوا المناصب التى تقلدها والمؤلفات التى كتبها والجوائز التى حصل عليها والدول التى زارها، وذهبت أبحث عن منطقة دافئة وخاصة فى حياته هذا المثقف التنويرى العظيم.. إنها مساحة علاقته بشقيقه أستاذ الطب النفسى الشهير الدكتور . عانى ثروت عكاشة فى أيامه الأخيرة من عدم قيام أعضاء جسمه بوظائفها العادية مع كبر السن، لكن هذه المتاعب الجسدية زادت من آلام الظهر وتسببت فى اضطرابات بالقلب والكلى، وهو ما جعله نقله إلى المستشفى ضرورة – كان يعالج بمستشفى الصفا بالمهندسين – لكن فجأة توقفت الأجهزة جميعا عن العمل، توقفت ضربات القلب التى استمرت 91 عاما كاملة، فى حالة من الرغبة المؤجلة لمغادرة الحياة كلها. كان الدكتور عائدا من بيت شقيقه متشبعا بالأحزان عليه، لم يمهلنى فرصة لأسأله، بدأ يتكلم هو، إنه يتخلى هذه المرة عن دور المحلل النفسى الذى يشرح النفوس البشرية، ليتحدث عن شقيق له بمثابة الأب. قال لى إن والده كان يقول له: أخوك ثروت عاوز يستلفك منى عشان يربيك بمعرفته. وعندما كان يذهب إليه كان يعاونه بطريقة مختلفة، كان ثروت يكتب وهو يستمع إلى السيمفونيات الموسيقية الشهيرة، وكان يحتاج إلى من يغير له الاسطوانات، ولأن أحمد كان صغيرا، فقد كان يقوم بهذه المهمة، ورغم أن ثروت كان يعامله معاملة عسكرية فيها حزم وحسم، إلا أنه كان يمنحه بعض المال، لأنه كان يجلسه إلى جواره ثلاث ساعات كاملة. عاش ثروت عكاشة أيامه الأخيرة حزينا، لم يكن يقرأ الصحف ولا يتعرض لما تكتبه، كان يشعر أن مشروع عبد الناصر تمت خيانته، وأن ما فعله تم إهداره على يد من جاءوا بعده، وكان يرى أن مشروع عبد الناصر تحديدا فى العدالة الاجتماعية اكتمل لما كانت هناك حاجة إلى ثورة 25 يناير. يمسك بخيط الحديث عن شقيقه الأكبر الذى يعتبره أبا روحيا له، يقول عنه: كان شخصية مركبة بطريقة غير معقولة، وعندما فكرت سعاد الصباح من خلال دار النشر التى كانت تملكها فى إصدار كتاب عنه اسمه «وردة فى عروة الفارس النبيل».. وطلبوا منى أن أكتب عنه فأشرت إلى أنه كان تجسيدا للإدراك المتكامل للتنوير الثقافى. ويضيف عكاشة: كان ثروت شخصية غريبة جدا، فكل واحد فينا لديه فصان فى المخ.. الأيسر مسئول عن المنطق والواقعية والأيمن مسئول عن الزمن والتذوق الجمالى، وعادة ما يتميز بتفوق واحد من الفصين على الآخر، لكن الغريب أن الفصين كانا متميزين عند ثروت، فقد كان يعمل فى الفن كعالم، وفى العلم كفنان. يرى أحمد أن شقيقه كان شخصية متناقضة لكن لديها انسجاماً وهارمونى كبيرين جدا، فأحد كتبه عن الحرب الميكانيكية، وفى نفس الوقت لديه ترجمة راقية جدا لرومانسيات جبران خليل جبران، وتراه يكتب كتابا عن جنكيز خان، وفى الوقت نفسه يصدر كتاب «مولع بفاجنر» الموسيقى العذب. عظمة ثروت عكاشة الذى كان موسوعيا كتب عن الفن المصرى والإغريقى والرومانى والقبطى والإسلامى، وفى كل ذلك كان يعيد استخدامات الحواس الإنسانية.. فالعين عنده تسمع.. والأذن ترى، وبذلك يصل بالتذوق إلى منتهاه. ظل ثروت عكاشة حتى الأيام الأخيرة من حياته يعمل أكثر من 15 ساعة فى اليوم، لم تكن لديه سكرتيرة، كان يعمل بنفسه ويطالع المراجع بنفسه، كان يكتب بالقلم الرصاص، متفرغا لأكثر من 35 عاما بعد أن ترك الوزارة للعمل فقط، وهو ما جعل البعض يعتقد أنه منعزل أو لا يحب الفكاهة، فقد كان كذلك لأنه كان حريصا على وقته ألا يضيعه فيما لا يفيد فنه. دعاه مرة ليلقى محاضرة بعنوان «التطهر النفسى من خلال الفن».. رفض فى البداية، وعندما أصر الشقيق الأصغر رضخ له، لكنه قال له إنه يحتاج إلى ستة شهور لإعداد هذه المحاضرة، فقد كان يعمل كقديس فى محراب الفن. وقبل أن يقدمه قال لجمهور ندوته إنه لم يعزف على آلة موسيقية لكنه تذوق الموسيقى من خلال ثروت، ولم يكتب الشعر لكنه استمتع به من خلال ثروت، ولم يرسم فى حياته لوحة، لكن الفن التشكيلى كان متعة بالنسبة له عبر ثروت. لمست فى نبرات صوت الدكتور عكاشة مدى حزنه على شقيقه، فهو لم يفقد فيه الأخ الكبير فقط، ولكن فقد الأب الروحى الذى كان سندا نفسيا لأكبر متخصص فى الطب النفسى فى الشرق الأوسط كله. السنة الخامسة - العدد 344 - الاثنين - 03/05 /2012