مرسى لا يعتبر نفسه مسئولا عن قتل نحو خمسين ضحية سقطوا فى عهده بل أشاد برجال الشرطة الذين أطلقوا النار على بعض المتظاهرين خرج المصريون عن إيمانهم القوى بقدسية بيوت الله وعبروا عن غضبهم من وجود محمد مرسى فى المسجد الحرام وهو يؤدى مناسك العمرة.
كان محمد مرسى قد دعى لتسليم رئاسة القمة العربية الاقتصادية إلى السعودية.. لكنه.. لم يستفد من وجود الرؤساء والملوك العرب لمساعدته فى حل المتاعب الاقتصادية التى تمر بها مصر.. لكنه.. طار من القاهرة إلى المدينة لزيارة سيد الخلق.. ومنها إلى جدة ليصل برا إلى مكة لتأدية العمرة.. لتكون الرياض محطته الأخيرة.. دون أن نعرف من تحمل تكاليف الشق الدينى فى الرحلة له وللسيدة قرينته ولحراسته وحاشيته.
بدا واضحا أن دوره فى القمة الذى اختره بنفسه دور بروتوكولى.. لم يزد فى الغالب عن التسليم والتسلم.. بجانب لقاءات عابرة.. سارع بعدها إلى السفارة لاجتماع مع الجالية.. تركز الحوار فيه عن مشاكل فردية عرضها أصحابها.. تهبط بمستوى الرئيس إلى مستوى وزير.. وانتهى الكلام بمصحف تلقاه من رجل قبطى.. دليلا على الوحدة الوطنية فى الغربة.
تكرر مشهد الغضب من محمد مرسى فى الإسماعيلية.. حيث قطع متظاهرون طريقه.. وألقوا بصوره على الأسفلت.. وهتفوا برحيله.. ولم تهدئ كلماته التى تعهد فيها ببقاء قناة السويس مصرية نافيا أن تصبح قطرية فلم يعد أحد يثق فى وعوده بعد أن احترف التراجع عنها.
ويبدو أن سحر الإسماعيلية أغراه بقضاء أيام فيها.. فى استراحة جزيرة الفرسان التى جذبت إليها أنور السادات من قبل.. فاعتبرها مدينته الساحلية.. على خلاف الإسكندرية التى كانت المدينة الصيفية لجمال عبد الناصر.. وشرم الشيخ التى فضلها حسنى مبارك عن القاهرة.. العاصمة.
لكن.. محمد مرسى لم ينس للإسماعيلية ما فعلت به.. فأضافها لقائمة المحافظات التى فرض عليها حالة الطوارئ رغم أنها لم تشهد العنف الذى شهدته السويس وبورسعيد.
تساقط القتلى والمصابين مثل ورق الشجر فى السويس فى الذكرى الثانية للثورة وفى بورسعيد بعد الحكم بإعدام 21 متهما من أهلها فى مجزرة الاستاد التى وقعت منذ عام خلال مباراة بين الأهلى والمصرى.. ليضاف إلى كتاب الموتى الذى وضعت فصوله الأولى فى أحداث الاتحادية فصولا أشد سوادا.. دون أن يبدو فى الأفق ما يغلق السجل عند هذا الحد.. فعزرائيل لا يزال ينشر أتباعه فى مدن وشوارع مصر الغاضبة.. فى انتظار حصد المزيد من الأرواح.. خاصة أن أسباب العنف لا تزال قائمة.. ساخنة.
لكن.. محمد مرسى لا يعتبر نفسه مسئولا عن قتل نحو خمسين ضحية سقطوا بعد توليه السلطة.. بل.. أشاد برجال الشرطة الذين خرجوا عن شعورهم وأطلقوا النار على بعضهم.. فأغرقوهم فى دمائهم.
هناك تفرقة فى الموت قبل وبعد رئاسته للدولة.. من قتل قبلها شهيد.. ومن قتل بعهدها سفيه.. من سقط قبلها ملاك.. ومن سقط بعدها شيطان.. وهى تفرقة سياسية.. لا تعفيه من المسئولية الجنائية.. فلو كان مبارك يحاكم لأنه لم يتدخل بما له من سلطات عليا لصون حياة القتلى وحقن دمائهم، فإن النص نفسه ينطبق على محمد مرسى.. ويفرض محاكمته.. ولو كنا فى دولة قانون كما يزعم فإن عليه أن يقبل بمساءلته اليوم قبل أن يجبر عليها فيما بعد.. وإلا كان القانون الذى يقصده قانوناً مصاباً بالحول.. أو قانوناً «أعور».. يحاكم رئيساً سابقاً.. ولا يقترب من رئيس حالى.
وليس هناك دليل واحد على أنه يحترم القانون.. فما أن وصل إلى الحكم حتى أعلن عودة مجلس الشعب ضاربا عرض الحائط بالمحكمة الدستورية.. ولم يتردد فى تصفية من لم يعجبه من مستشاريها بنص تشكيلها فى الدستور.. ولم يمارس سلطاته فى حمايتها من البلطجية الذين حاصروها.. ومنعوها من تأدية عملها.. ونظر القضايا المصيرية المعروضة عليها.. لتسن بذلك سنة سيئة.. ارتدت إليه فيما بعد.. فمن لم يعجبه حكم محكمة حاصرها وهاجمها وربما حرقها.. وبغياب الثقة فى العدالة فتحت بوابات الفوضى على مصاريعها.. ووصلت مشاهد العنف والضرب والقتل والحرق إلى ما وصلت إليه فى القاهرةوالسويس وبورسعيد.. فعندما يشعر الشارع بغياب القانون يأخذ حقه بيده.. بل.. ويأخذ حقوق غيره أيضا.. لتصبح الدولة نفسها فى مهب الريح.
ولو كان الإخوان ورفاقهم فى تيارات الإسلام السياسى قد استخدموا الميليشيات فى التهديد والوعيد والحصار والهجوم والقتل وتحقيق المكاسب وتصفية الحسابات فإنهم استنوا سنة أخرى سيئة.. أغرت خصومهم بالسير على نفس نهجهم.. فتشكلت جماعات عنف مضادة.. مثل البلاك بلوك.. ليطفو قانون جديد على سطح الحياة فى مصر.. العين بالعين.. السن بالسن.. الموت بالموت.. الحرق بالحرق.. وفى هذه الحرب ستكون الغلبة لمن فى المعارضة.. فلديهم هدف سيسعون إليه بكل ما يملكون من غيظ وإيمان ورغبة فى الانتقام.. بينما الطرف الآخر ذاق حلاوة السلطة.. وتمرمغ فى نعيمها.. وأصبحت حياته غالية.. ومن ثم فقد حماسه للجهاد.
وقد لاحظ مراقبون صحافيون أمريكيون تكلموا معى أن الترف كان مسيطراً على القاعة الذهبية التى اجتمع فيها مجلس الدفاع الوطنى.. فالمقاعد فرنسية.. والمائدة ملكية.. والزهور التى وضعت عليها كان يجب أن توضع على قبور القتلى لا أمام المسئولين عن قتلهم.
لم يكن المشهد بكل ما فيه من ترف وفخامة مناسبا لما يجرى خارجها من سواد وخراب.. فهل أرادت رئاسة البلاد أن تقول إنها أكبر وأقوى مما يحدث ؟.. أم إنها من شدة الصدمة التى تلقتها لم تنتبه إلى تناقض الصورة التى ظهرت فيها عن الصورة التى كان عليها الشارع فى اللحظة نفسها ؟.. أم إن خبراء البروتوكول المحترفين الذين يعملون فى القصور خشوا لفت نظر الرئيس كى لا ينالوا غضبه ؟
إننى أعرف أن هؤلاء الخبراء يحددون مكان أى اجتماع حسب طبيعته وظروفه والمشاركين فيه.. بما فى ذلك ارتفاع المقاعد.. وزاوية التصوير.. ونوعية الخضرة إذا كان لابد منها.. إن عدم الخبرة يمتد على ما يبدو إلى كل شىء.. من السياسة إلى الصورة.. ومن فلسفة الحكم إلى فلسفة الزهور.
وبرفض محمد مرسى الضغط على جماعته لتوفيق أوضاعها مثلها مثل غيرها سابت وسالت الجماعات غير الخاضعة للشرعية.. مثل «الجمعية المصرية للتغيير».. و«حركة 6 إبريل».. وائتلافات شباب الثورة.. وهو ما يعنى مزيدا من الفوضى فرضتها السلطة الحاكمة بتساهلها مع أهلها وعشيرتها.
ولو كان محمد مرسى قد فاز بصورة البطل السياسى عندما أطاح بقيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فإنه لم يستمتع باستقلال الرئيس عن الجيش طويلا.. فسرعان ما لجأ إليه طالبا الحماية بعد حصار القصر الجمهورى فى اليوم الأول من أحداث الاتحادية.. حيث جبر على الخروج فى حالة لم تكن مطمئنة له بالقطع.. فاستردت المؤسسة العسكرية فى السر ما فقدته من قوة فى العلن.. وتأكد بسهولة أن الجنرالات الذين لا يريدون أن يجلسوا فى مقاعد الحكم لا يزالون يؤثرون ويتحكمون فيمن يجلس عليها.
لقد خرجت مدرعات الحرس الجمهورى من مكامنها كى تحمى القصر.. مؤكدة أن ميليشيات الجماعة لا تكفى لحمايته.. وأن كل ما تقدر عليه هو الهجوم على خيام المعتصمين أمام القصر.. والاستيلاء على ما فيها من «جبنة نستو».. اعتبرت دليلا على تمويلهم السخى من الماسونية العالمية التى تتخذ من شكل هرم «الجبنة النستو» رمزا وشعارا لها.. اتهام كوميدى.. لا يختلف عن مؤامرة خطف الرئيس من مكتبه.. وهو ما يفرض إرسال بعثة عاجلة من الجماعة إلى أكاديمية الفنون لدراسة الكتابة للمسرح.
وفيما يشبه اليقين.. فإن محمد مرسى لم يكن يتمنى أن يستعين بالجيش لمواجهة الانفلاتات الأمنية.. كى لا يظهر وكأنه فى حاجة إليه.. ولكن.. الضرورة فرضت عليه اللجوء إليه كى يسيطر على السويس وبورسعيد.. بعد أن أصبحت المحافظتان خارج السيطرة.. وعجزت الشرطة على المواجهة.. ولوحظ أن القوات المسلحة نزلت الشوارع هناك بناء على رغبة من السلطات المحلية.. استجاب لها رئيس الدولة.. وهو السيناريو الذى مشى عليه محمد مرسى كى لا يبدو أنه هو الذى طلب نزول القوات المسلحة.. رغم أنها لا يمكن أن تنزل إلا بأمر منه.. بصفته القائد الأعلى.
ويصعب القبول بأن نزول الجيش إلى المدن ومواجهة الخارجين على القانون وتصديه للمدنيين لصالحه.. فقد سعت قيادته الجديدة إلى إزالة الآثار السيئة التى أصابته قبل تسليمه السلطة لرئيس منتخب.. وتلخصت هذه الآثار.. فى الهجوم على قادته.. واتهامهم بتسليم البلاد إلى الإخوان.. بجانب اتهامات أخرى مثل قتل المتظاهرين فى أحداث ماسبيرو.. والتعامل بقسوة مع النساء فى أحداث مجلس الوزراء.. يضاف إليها اتهامات أخرى شخصية.. وتسببت هذه الاتهامات فى وجود حالات غضب وتذمر داخل الثكنات.. انتهت بإشادة من الرئيس.. وعقاب للمتجاوزين.. فكانت إقالة رئيس تحرير الجمهورية السابق.. نوعا من كبش الفداء.
بنزول الجيش إلى مدن القناة عاد إلى الظروف الحرجة التى كان عليها من قبل.. أصبح على قادته وضباطه وجنوده أن يمسكوا أعصابهم إلى ما يتجاوز الاحتمال البشرى.. وأن يغضوا الطرف عن ما تتعرض له منشآتهم.. مثل نادى القوات المسلحة فى بورسعيد الذى تعرض لهجوم مدمر.. وأتصور أنهم سينجحون فى ذلك.. ولو وقعت خسائر.. وتعرضوا لمتاعب.
لكن.. ما يهمنى هنا هو أن ينتبه الجيش إلى المؤامرة الخارجية الأكبر التى دبرت له.. لقد سمعت من أعضاء سابقين فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن الولاياتالمتحدة تسعى منذ سنوات إلى تفكيكه.. مثلما حدث مع الجيش العراقى.. واقترحت أكثر من إدارة أمريكية تحويله من تشكيلات مقاتلة إلى وحدات متخصصة فى مكافحة الإرهاب.. وتبريرها ذلك.. أن هناك سلاما مع إسرائيل.. فلا مبرر لوجود جيش محارب.. والحاجة ملحة الآن لاستخدامه فى تصفية التنظيمات الجهادية المسلحة.. وفى المقابل.. ستزيد الولاياتالمتحدة المعونة العسكرية.. وترسل العديد من الجنود والضباط إلى إيطاليا للتدريب على مهامهم الجديدة.
والمؤكد أن كل قادة الجيش رفضوا العرض الأمريكى.. فلم يتصور أحد منهم أن يصبح الجيش نوعا من الشرطة.. أو صورة من صور الحرس الوطنى.. يتدخل فى حفظ الأمن الداخلى.. ولا يلعب دورا فى قتال خارجى.. ولكن.. أخشى أن تؤثر الأحداث التى أجبر الجيش على التعامل معها فى شمال سيناء ثم فى بورسعيد والسويس على هذه العقيدة.. ويبدأ التحول التدريجى فى عقيدته وطبيعته وفلسفته وتشكيلاته.. لا أقول إن ذلك سيحدث بين يوم وليلة.. ولكن.. الطريق ذا الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة.. ما أن ننزلق إليها حتى تتوالى باقى الخطوات بأسرع مما نتصور.
إن ما يجرى أكبر وأخطر وأعمق مما نتصور.. ولن يتوقف بإجراءات استثنائية.. أو بحوار غير مدروس بين قوى السلطة ورموز المعارضة.. أو بتهديدات من رئيس الدولة بما هو أسوأ وأصعب.. ما يحدث.. وما سيحدث جزء من مخطط خارجى رسم للمنطقة كلها منذ عام 2003.. لنا نصيب الأسد فيه.. ربما بدت أحداثه بسيطة.. عابرة.. لكنها .. لن تتوقف عند حدودها.. ستنفلت.. وتشتعل.. وتزيد.. إلا إذا نظرنا إليها نظرة كلية.. تصور ما هو قائم.. وتتوقع ما هو قادم.. وإلا ستكون مصر أكثر من مصر.. وسيكون شعبها أكثر من شعب.. ولن يفرق الطوفان القادم بين إخوانى وليبرالى وعلمانى وسلفى وصوفى.. سنكون جميعا فى نفس المستشفى جرحى.. أو فى نفس المقبرة موتى.. برعاية رسمية من البيت الأبيض.