كُلما نظرت نظرة شاملة لما يدور على أرض مصر وما يحيط بشعبها، أتذكر فيلم "سواق الأتوبيس"، وهو بالمناسبة أحد روائع المخرج عاطف الطيب، والذي صور فيه البطل "نور الشريف"، وهو يحاط بالخيانة من كل جانب، ويصيبه الإحباط من أنانية وعدوانية، ونفعية كل من يحيطون به، ويسرقون عمره. وقف عاطف الطيب في تلك المرحلة من مراحل الانفتاح والسرقة وخيانة أمانة الشعب، معبرا عن غضب المواطن المصري البسيط من كل هذه الدونية، في المشهد الأخير من الفيلم ، إذ يقوم لص بسرقة حقيبة امرأة -وكأنها تعبر عن مصر-، فتصرخ صرخة المستغيث، وهي ترى اللص يقفز من النافذة، فإذا ببطل الفليم -الذي مازلنا نعيشه- يتمثل أمامه كل هؤلاء اللصوص الذين سرقوا كل شيء في حياته، في شخص هذا السارق، فيوقف الأتوبيس وينزل بكل الغيظ الذي يملأ صدره، ليواجهه ويظل يصيبه باللكمات وهو يقول له صارخا من الأعماق: " يا ولاد الكلب"!
حينها رفضت الرقابة المشهد، على اعتبار أنه يحتوي على سب، بلفظ غير لائق، ولكن المخرج أبى إلا أن يستبقي عليه باعتباره الصرخة المدوية التي تعبر عن القصة كلها، وأن الفيلم يفقد أهم أجزائه إذا تم حذف المشهد، وأن عبارة "يا ولاد الكلب".. ما هي إلا صرخة الشعب المصري المكبوت الذي هو" سواق الأتوبيس الأصلي".
قالها عاطف الطيب من زمن قديم.. بلسان شعب ما يلبث أن يخرج من دكتاتورية حتى يقع في دكتاتورية، لكل من باعوه بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين..
لكل من جوعوه وامتلأت بطونهم بأمواله..
لكل جاحد ولكل نفعي ينظر لمصالحه الضيقة تاركا مصلحة الوطن خلف ظهره..
لكل من تآمر عليه ومن اقتات بأحزانه وصنع من دموعه لؤلؤا يبيعه في سوق التجارة السياسية والإعلامية.
لكل من أفسدوا حياته خوفا على ما لديهم أو طمعا فيما يمكن أن يحصلوا عليه..
فمالنا لا نسمع وإذا سمعنا لا نعقل؟
لم تعد بطولة أيها الثائر في الميدان، أو في فضائيات الفتن، أو جرائد التخوين، أن تسب المجلس العسكري.. أو تسب الجنود والضباط، وتتهمهم بخيانة الوطن..
ليست بطولة أن تصف جموع المصريين بأنهم عادوا للخنوع والخضوع والبحث عن لقمة عيش، فلا تقدر رأيهم ولا تحترم كلمتهم، ولا ترى غير أنك الصوت الوحيد الذي له الحق أن يفرض رأيه ويعلن كلمته، وعلى الجميع أن يستمع إليها وإلا فالميدان موجود!
ليس شرفا أن ترى نفسك الإنسان الحر لأنك في الميدان، ومن يمكثون في البيوت مجرد عبيد..لأنه وياللمصادفة الغريبة أن الذين خرجوا "ثوارا" لإسقاط النظام بلغوا 20 مليونا.. والذين ينزلون الآن لا يتجازون مليونا على أقصى تقدير... أمال باقي الثوار ال 19 مليون راحوا فين؟؟؟؟
متهيألي بقوا ثوار منزليين... لكن على الثوار اللي في الميدان!
ومن المؤسف أن كلمة "ثائر" كادت أن تصبح في تعريف المجتمع: "الولد قليل الأدب اللي بيشتم أي حد، ومبيحترمش كبير، ومبيستمعش لغير صوته، وبيخون أي بني آدم يختلف معاه في الرأي".. بما يشير إلى أننا لم نعد في أزمة تحقيق مطالب بقدر ما نحن في أزمة أخلاق.
ولأُبسِّط الصورة، يُحكى أن أحد الحكماء ذهب بابنه خارج المدينة ليُعرفه على تضاريس الحياة في جو نقي.. بعيدا عن صخب المدينة وهمومها.
سلك الاثنان وادياً عميقاً تحيط به جبال شاهقة.. وأثناء سيرهما تعثر الطفل في مشيته فسقط على ركبته.. صرخ الطفل على إثرها بصوتِ مرتفع تعبيراً عن ألمه : آآآآه فإذا به يسمع من أقصى الوادي من يشاطره الألم بصوت مماثل :آآآآه نسي الطفل الألم وسارع في دهشةٍ سائلاً مصدر الصوت : ومن أنت؟؟ فإذا الجواب يرد عليه سؤاله : ومن أنت؟؟ انزعج الطفل من هذا التحدي بالسؤال فرد عليه مؤكداً : بل أنا أسألك من أنت ؟ ومرة أخرى جاء الرد بنفس الجفاء والحدة : بل أنا أسألك من أنت؟ فقد الطفل صوابه بعد أن استثارته المجابهة في الخطاب .. فصاح غاضباً "أنت جبان" فكان الجزاء من جنس العمل..وبنفس القوة يجيء الرد "أنت جبان." وقف الأب يتابع المشهد، فلما التفت إليه ابنه التفاتة المُتسائِل قال له والده:
أي بني : نحن نسمي هذه الظاهرة الطبيعية في عالم الفيزياء (صدى).. لكنها في الواقع هي الحياة بعينها .. فإذا أردت أن يستمع الناس إليك ليفهموك فاستمع إليهم لتفهمهم أولا،ً وإذا أردت أن يحترموك فاحترمهم أنت أولا.
المدهش في الأمر أن هذا الدرس الذي كانوا يعلمونه للأطفال في مدارسهم غاب عن المشهد الثوري؛ فذهب كل طرف لتخوين الآخر وسبه ومحاولة فرض الرأي عليه. فكفانا سبًّا وتخوينا!
إن سواق الأتوبيس أيها السادة يرى من يسرقون حلمه، ويسرقون عمره، ويسرقون قوته، ويسرقون أمنه، ويتاجرون بدماء أبنائه ويلوون ذراع إرادته.. يراهم رأي العين.. وبات يلفظهم جميعا. وأخشى أن تأتي اللحظة التي يخرج فيها صارخا في وجه الجميع صرخة عاطف الطيب ولن يوقفه يومها أحد! فلا تستهينوا بصمته ولا يغرنكم كمونه.
وربما آن الأوان أن تجتمعوا على كلمة سواء، لعل هذا الشعب يخرج من ميدان التحرير؛ ليتنسم عبير الأمل في ميدان الحرية!