حملة ممنهجة منظمة مدبرة - وضف ما شئت من معانى المؤامرة - تشنها أجهزة ما على الإنترنت ضد الثورة وكل من يمثلها. هذه الحملة عمرها شهور وبدأت بكتائب اللجان الإلكترونية الذين يدخلون على الفيسبوك والتويتر بحسابات وهمية ويتفرغون ليل نهار للشتائم والتهديد وبث الشائعات والأكاذيب ثم تطورت إلى تلفيق بعض الكليبات والأفلام القصيرة التى تطعن فى الثورة ورموزها وتتهمهم بأنهم عملاء لأمريكا وأنهم يسعون لنشر الفوضى والدمار إلى آخر هذه الاسطوانة المشروخة. هذه الأفلام بدأت عقب تنحى مبارك بأسابيع قليلة وتحديدا بعد ظهور فيلم لفقه التليفزيون السورى عن القناصة الأجانب الذين يقتلون المتظاهرين، وسرعان ما التقطه من وراء القناصة المصريين ليضيفوا إليه لقطة من فوق وزارة الداخلية لبعض من يطلقون الرصاص ويزعمون - بمنتهى العبط - أنهم أجانب، وطبعا هم ضباط مصريون شكلهم نظيف، وحتى لو كانوا أجانب فكيف صعدوا إلى سطح وزارة الداخلية ليموت العشرات من الشباب العزل بحجة أنهم اقتربوا من شارع محمد محمود البعيد عن مبنى الداخلية بشارعين وخمسمائة متر!
الإخوة «المخططون» فى «اللجنة الإلكترونية للتوعية بمضار الثورات» استعانوا أيضا بكليب سورى عن الصحفى والمفكر الفرنسى برنار هنرى ليفى اليهودى الذى يدافع عن إسرائيل والذى زار مصر وليبيا خلال الثورة ليؤكدوا بمنتهى الثقة أنه مفجر الثورات العربية كلها، ولو صح ذلك فهذه أكبر إدانة لهم ولأجهزتهم الأمنية الفاشلة.
«المخططون» - على رأى عنوان مسرحية عمنا يوسف إدريس- أضافوا إلى الكليبات موقعا على الإنترنت سموه «أناركى تكست» سبق أن كتبت عن محتواه منذ حوالى شهرين، ولكنهم فى الأسابيع الأخيرة قرروا التوسع وبدأوا ببث الكليبات القديمة وأخرى جديدة وثالثة مركبة من القديمة والجديدة على الفيسبوك واليوتيوب، ثم قرروا التقدم برشة جريئة إلى الأمام ببث بعض هذه الكليبات على قنوات تابعة لأمن الدولة مثل «الفراعين» و«الناس»، وكالعادة لم ينتبهوا إلى أن بث هذه الأفلام يدينهم هم قبل أى شخص آخر.
أحد هذه الكليبات تم بثه فى قناة «الناس» أثناء أحداث مجلس الوزراء وقصر العينى الأخيرة، وهو يصور المعتصمين فى شارع مجلس الشعب ليلا من خلال كاميرا شديدة الجودة ومن بينهم شاب يلف سيجارة توحى بأنه داخلها مخدر. المدهش أن الكاميرا كانت تركز على الشاب قبل أن يخرج من جيبه السيجارة ويلفها، مع مراعاة أن الكاميرا تصور من مسافة بعيدة جدا لا يمكن رؤيتها بعين المصور العادية خاصة أن الوقت كان ليلا، وهو ما يوحى بأن الموضوع تمثيلية تم تدبيرها.. وإذا شككت فى أنها تمثيلية فإليك الحكاية التالية: خلال أيام الاعتصام هجم عدد من البلطجية على بيت مجاور لمسكنى بالقرب من ميدان التحرير فقام بعض الشباب بحصارهم والقبض عليهم وضربهم. البلطجية صاحوا «اطلبوا البوليس.. اطلبوا البوليس» على عكس كل المجرمين الذين نشاهدهم فى الأفلام. المهم أن الشباب طلبوا البوليس فجاءت عربة شرطة من قسم السيدة زينب نزل منها ضابط بمجرد أن شاهده المجرمون صاحوا «يا محمد بيه يا محمد بيه.. شايف بيعملوا فينا إيه؟».. تخيل.. المجرمون هم الذين يشتكون الشرطة من المواطنين! المهم محمد بيه اصطحبهم معه فى السيارة باتجاه قسم الشرطة، ولكن فى اليوم التالى ذهبت مع صديق صحفى شاهد على الواقعة إلى اعتصام مجلس الوزراء ففوجئنا بأن أحد هؤلاء المجرمين داخل الاعتصام!!
هذه الحكاية ولدى غيرها كثير تبين لكم أن الاعتصامات والمظاهرات تضم بلطجية ولصوصاً وعاهرات فعلا، ولكنهم البلطجية واللصوص والعاهرات والمخبرون وضباط المخابرات الذين ترسلهم الأجهزة والنظام و«المخططون» إياهم.
الفيديو التالى انتشر بشدة على الإنترنت وجرى بثه على القناة العكاشية الشهيرة بالفراعين، وهو يحمل عنوان «تعذيب فوق مسجد عمر مكرم». وفى الحقيقة هناك نسختان من الفيديو الثانية تم فيها إضافة مقطع وحذف مقطع ظهر فى النسخة الأولي. للوهلة الأولى يبدو هذا الفيديو صادما جدا: الثوار يقومون بتعذيب بعض الرجال العراة فى عز البرد، يقيدون أيديهم وأرجلهم وينهالون عليهم بالصفعات، ومن بين الثوار أطباء من المستشفى الميداني. وواحد من الثوار يتبول داخل مئذنة المسجد. ولكن التدقيق قليلا فى الصور المعروضة يكشف شيئا آخر تماما.
الفيديو -مثل لقطات مجلس الوزراء- مصور بواسطة كاميرا بعيدة جدا شديدة الجودة وليس هناك شك فى أنها إحدى كاميرات الأجهزة الأمنية المنتشرة فى وسط البلد، والبلد كلها.. معنى ذلك أن الأجهزة تصور كل شيء فلماذا يقتصر تسريبها على ثوان أو دقائق ممنتجة ولماذا لا تعرض لنا الوقائع كاملة بدون مونتاج؟ ولماذا لا تتخذ اجراءات قانونية ضد هؤلاء خاصة أن ملامحهم واضحة تماما؟ سأقول لك: السبب أن هؤلاء تابعون للأجهزة وأنهم يقومون بتمثيلية رخيصة ومكشوفة أمام الكاميرات هدفها تشويه الثوار وأطباء الميدان وإمام المسجد مظهر شاهين.
إذا دققت فى الكليب ستجد أنه لا يحتوى على عنف حقيقى ولكن تعذيب أفلام مقتبس من صور سجن أبى غريب وفيلمى «معلهش احنا بنتبهدل» و«ليلة البيبى دول»، وهذا هو آخر مستوى لخيال الأجهزة. ثانيا هناك اثنان يحملان لحية سلفية مما يؤكد تأكيدى الدائم بأن نصف السلفيين تابعون لأمن الدولة لو صح افتراضى بأن هذا الفيديو تمثيلية. ولكن إذا افترضنا أنهم سلفيون فعلا فقد نصدق أنهم يقومون بالتعذيب والقتل من باب القصاص، ولكن هل يقبل سلفى أو شخص متدين أن يقوم أحد بالتبول فى مئذنة مسجد أمامه؟ ثالثا هناك اثنان فى الشرفة الوسطى يراقبان الشارع يرتديان زيا موحدا أزرق مثل الزى الذى يرتديه عمال النظافة، وهناك ثالث فى السطح الذى تدور فيه وقائع التعذيب ويعلو الشرفة الوسطى بقليل يرتدى نفس الزى الأزرق، فهل يرتدى الثوار زيا موحدا أم أن من يفعل ذلك منذ اليوم الأول للثورة هو البلطجية وعملاء الأمن؟ ويمكن أن أعدد لك أنواع الزى الرسمى الذى يتم توزيعه عليهم من القمصان الوردية إلى السترات الجلدية.. إلخ
رابعا: فى إحدى اللقطات يقوم شاب أنيق يرتدى بلوفر أزرق - أيضا!- بتوجيه أمر إلى أحد الرجال بحمل شخص عار مقيد والهبوط به إلى أسفل ثم يقف يراقبه وهو يؤدى المهمة. هل الثوار يأمرون بعضهم البعض مثلما يأمر الضابط معاونى الأمن؟
خامسا: أين هؤلاء الذين تم تعذيبهم ومن هم ولماذا لا يتقدمون بشكوى رسمية أو يظهرون عند عكاشة ليحكوا وقائع تعذيبهم كما يفعل الثوار الذين يدلون بشهاداتهم؟ هل قام الثوار بقتلهم فوق المسجد؟ لماذا لا نرى تلك الصور إذن وأين ذهبوا بالجثث؟ تذكر أن هذه الوقائع تحدث فى الصباح الباكر وهناك مئات الناس والسيارات يمرون حول الجامع مع ملاحظة أن هناك صلوات وشيخاً سيصعد للمئذنة بعد قليل، ومن الواضح أنهم اختاروا الساعات الطويلة التى تفصل صلاة الفجر عن صلاة الظهر لتأدية هذه التمثيلية.
سادسا: من المعروف أن الأمن - أو التيارات المعادية لاستمرار الثورة- دسوا عددا من الأطباء العملاء لهم داخل المستشفى الميدانى كما دسوا عددا من سائقى عربات الاسعاف كانوا يقومون بتوصيل المصابين إلى أقرب قسم شرطة. وقد شهدت بعينى تصرفات بعض الأطباء المريبة خلال أحداث محمد محمود، ومما يؤكد ذلك البيان الذى أعلنه أطباء المستشفى الميدانى فى بداية أحداث مجلس الوزراء الذى يشيرون فيه لوجود مندسين بينهم، وبيانهم الثانى بعد ظهور الفيديو الذى يؤكدون فيه أنه تم الاعتداء عليهم وطردهم والاستيلاء على الأدوية والأدوات وملابسهم البيضاء، وأنهم تعرفوا فى الفيديو على بعض هؤلاء البلطجية، وأخيرا هناك البلاغ الذى تقدم به الشيخ مظهر شاهين مطالبا بالتحقيق فى الحادث ومؤكدا فيه أن هؤلاء بلطجية وعملاء أمن استولوا على سطح الجامع فى ذلك اليوم لمدة ساعات قبل أن يتم طردهم منه، وكذلك بلاغ المحامى خالد أبو بكر وبلاغ نقابة الأطباء وبلاغ وزارة الأوقاف بالتحقيق فى الواقعة.. وطبعا لن تظهر نتائج هذا التحقيق لأن الجميع يعرف من هو هذا الطرف الثالث فيما عدا الطرف الثالث الذى يعتقد أن أحدا لا يعرفه!!
ومن بين «الحملة البصرية لتشويه الثورة» يمكن أن نشير أيضا لسلسلة عن شباب 6 أبريل يعتقد صناعها أنهم يأتون بما لم يأت به عظماء السينما من تلفيق وتركيب وقص ولصق لمجموعة من الصور الفوتوغرافية الشخصية لبعض شباب الثورة أثناء حفلات عائلية أو لقاءات جماعية أو رحلات داخلية وخارجية ومن بينها رحلة لأمريكا - ياللهول.. وكأن السفر لأمريكا جريمة مع ان المجلس العسكرى ورجال المخابرات وأمن الدولة كلهم يسافرون إلى أمريكا لتلقى التدريبات وحضور المؤتمرات ولقاء المسئولين هناك بل والحصول على تمويلات، علما بأن 6 أبريل لم تحصل على أى تمويل أجنبى وفقا للتقرير الرسمى الذى نشر مؤخرا. ومؤخرا مع حملة مداهمة منظمات حقوق الانسان أضافوا إلى كليبات 6 أبريل كليبا جديدا يتهم نشطاء هذه المنظمات بأنهم لا يدافعون سوى عن شباب 6 أبريل!
هذه الحملات المصورة تركز أحيانا على أسماء بعينها مثل وائل غنيم الذى تم بث كلمة له بالانجليزية فى أحد المؤتمرات مصحوبة بترجمة عربية محرفة لكل جملة قالها تقريبا من نوعية أن يقول «.. نكشف أخطاء المجلس العسكري» فتتحول فى الترجمة إلى «نكشف الأخطاء التى أوقعنا فيها المجلس العسكري»! أو أسماء محفوظ التى أضافوا إلى كليب شرائها لسيارة ثمنها 600 ألف جنيه شائعة يقوم بترويجها كل أصحاب محلات بيع السيارات فى مصر، علما بأنها لا تملك سيارة أصلا.
أحيانا تركز هذه الفيديوهات على تيار بعينه مثل فيلم عن «الأناركية» - الكلمة الجديدة التى يخيفون بها البسطاء- يذكر أن الأناركيين لا يسعون سوى إلى القتل والتخريب، علما بأن الثوار بجميع أطيافهم لم يقتلوا شخصا واحدا حتى الآن، أو يقول فيه مذيع قناة «الناس» الجاهل أن المخابرات الأمريكية تمول الحركات الاشتراكية الماركسية فى مصر! وأحيانا تكون عبارة عن برنامج تليفزيونى من قناة «الجزيرة» مثلا، أو التليفزيون التركي، تروى وقائع الربيع العربى فيتم تحريف الترجمة وتوجيه المعانى لخدمة فكرة واحدة وحيدة هى أن هذه الثورات من تدبير أمريكا وإسرائيل وليست نتاج حراك اجتماعى وشعبى ضد أنظمة ديكتاتورية قمعية نهبت بلادها وأذلت مواطنيها بأسوأ مما فعلت كل أشكال الاستعمار الأجنبى على مر التاريخ