تكرس الزيارة الحالية التى يقوم بها وزير الخارجية نبيل فهمي لواشنطن انعكاسا إيجابيا لمشهد العلاقات المصرية -الأمريكية، خاصة فى ظل تداعيات القرارات الأمريكية التى تصب فى خانة إعادة صياغة التعاون بين الجانبين على أسس ترجح كفة الرغبة المصرية فى تأصيل مبادىء الإحترام المتبادل والتعامل من منطلق القوة وليس الحاجة مع الجانب الأمريكي. ولا يبتعد قرار واشنطن هذا الأسبوع بشأن الافراج عن جزء كبير من المساعدات العسكرية لمصر، بينها عشر طائرات "أباتشي" وأكثر من 600 مليون دولار، عن رغبة الجانب الأمريكي فى تصحيح مسارات التوجه نحو الدولة المصرية الجديدة، بعد أشهر من حالة تصل حد الجفاء بسبب الرؤية الأمريكية الخاطئة لما جرى من ثورة شعبية دعمها الجيش فى 30 يونيو، أدت إلى الإطاحة بنظام الإخوان. وكانت الرؤية الأمريكية لما جرى قد انتجت صورة ذهنية مشوهة للأحداث، حيث اعتبرت ما جرى إنقلابا على رئيس مدنى منتخب بشكل شرعى عبر صناديق الإقتراع، وهو ما أدى إلى تفعيل سياسات عقابية أضرت بمسارات العلاقة بين القاهرةوواشنطن، كان الهدف منها ما اعتبرته الإدارة الأمريكية ضغطا على الإدارة المصرية، إلا أنه جاء بنتيجة عكسية. ويبدو أن واشنطن أدركت بما لا يدع مجالا للشك أن ما جرى فى 30 يونيو، ما هو إلا موجة جديدة من ثورة الشعب المصري على الظلم والطغيان، وأن عملية التحول الديمقراطي التى أقرها المصريون، تمشي على قدم وساق وفى طريقها للإكتمال، حتى تعيد إنتاج الدولة المدنية المصرية التى تحقق أهداف الثورة فى الحرية والعدالة الإجتماعية، خاصة مع اقتراب الإستحقاق الثانى بعد الدستور وهو الانتخابات الرئاسية التى تجرى نهاية الشهر المقبل. ويدرك المراقب جديا أن السبب الأساس لتجميد تسليم الطائرات قبل ثمانية أشهر، كان الضغط على مصر لاحتضان العملية الديموقراطية وابداء مرونة في السياسة الداخلية والتعامل مع "الاخوان" بعد إنتهاء دولتهم وعزل رئيسهم مرسي، إلا أن هذه الضغوط أسهمت فى تقوية وتعزيز التشدد الدينى، وهو ما أدى بالنتيجة إلى ارتفاع وتيرة التهديد الارهابي في سيناء وغيرها من المناطق المصرية. وتأكيدا لمبدأ الإهتمام الأمريكي بالشأن المصري لكونه رقما صعبا فى معادلة الأمن الاقليمي والدولي، أعادت واشنطن مراجعة وترتيب الأولويات التى لا يعنيها جهة أو جماعة بعينها بقدر ما يعنيها الصالح العام الأمريكي، ومن ثم ترجمت هذا الإهتمام إلى خطوات عملية تدعم الدولة المصرية الجديدة وتعلى من قيمة الخيار الشعبى فى إقصاء "الإخوان" عن الحكم ومحاربة التشدد الديني. وأدى ذلك إلى إتخاذ قرارات حاسمة سبقتها تصريحات حادة ومباشرة من وزير الخارجية الأمريكي تؤكد على أن "الإخوان سرقوا الثورة المصرية"، فيما سبق الافراج عن مساعدات الأباتشي، وهي طائرة محورية في محاربة عناصر الإرهاب، قيام واشنطن بادراج مجموعة "أنصار بيت المقدس" على لائحة الارهاب في التاسع من الشهر الجاري، كما ألمح بيان وزارة الدفاع الأمريكية حول رفع التجميد عن الأباتشي الى اعتبار مكافحة الارهاب في مصر "مصلحة قومية أمريكية"، وهذه هى المرة الأولى التي تربط واشنطن بين الامرين، مما يعزز قناعات الفهم الأمريكي لما يجري فى مصر. ومن هذا المنطلق فإن زيارة فهمي للعاصمة الأمريكية والتي بدأت بعد زيارة مدير المخابرات العامة محمد فريد التهامي التى جرت الأسبوع الماضي، تؤكد هذه النقلة والحراك الدبلوماسي المتزايد بين الجانبين، وذلك فى إطار حزمة من الإجراءات تصب فى خانة إعادة العلاقة المصرية- الأمريكية إلى اطارها الاستراتيجي، وإعادة صياغة تلك العلاقات من منطلق الشراكة البراجماتية، إنطلاقا من أهمية مصر الساعية بقوة إلى إعادة رسم صورتها كقوة إقليمية عظمى تمتلك الكثير من المقومات للدفع والتأثير فى أحداث المنطقة والعالم. ومع اقتراب اكتمال خارطة الطريق المصرية، فإن التهديدات الأمنية الداخلية والإقليمية التى يكرسها التشدد الديني، يمكن أن تكون القاطرة التى تحافظ على الشراكة المصرية الأمريكية، على اعتبار أن الخطر الذى يهدد مصر هو نفسه الذى يهدد الأمن الإقليمي والمصالح الأمريكية فى المنطقة والعالم. كما أن حالة الفوضى وعدم اليقين التى تلف المشهد الأمنى والسياسي فى دول ما يسمى "الربيع العربي" بدءا من سوريا إلى ليبيا وصولا لليمن، تفرض ضرورة تكريس قدر أكبر من الاهتمام العالمي، لمحاولة ترطيب الأجواء وصولا إلى توافقات تتيح حلولا لتلك الأزمات، وهو يعيد الدور المصري إلى واجهة المشهد باعتبارها قوة إقليمية عظمى ترتبط بعلاقات إخوة وجوار مع دول الأزمات. كما أن الانعطاف الأمريكي الحالى الذى يضع أولوية للاستقرار، يتكيف مع مرحلة سياسية جديدة في مصر، تقوم على استعادة الأمن والإستقرار تمهيدا لبناء دولة مصرية حديثة تكرس مبادىء الحرية والديمقراطية والإنتقال السلمي للسلطة، مع الإبتعاد عن الإقصاء والتهميس وأدلجة الشعوب. ويمكن للمراقب أن يدرك بجلاء توافق الرؤية المصرية مع الرؤية الأمريكية التى غاب عنها التشوش وضبابية الصورة الذهنية، باعتبار تنامي نفوذ المتطرفين في نقطة جيو-استراتيجية مثل مصر وعلى الحدود مع اسرائيل هو خط أحمر، يجب التعامل معه بحكمة ومنطق بعيدين عن التوجهات المسبقة المبنية على تفسيرات خاطئة للأوضاع. ويرى مراقبون أن الحراك الأمريكي الهادف إلى إعادة صياغة العلاقات الإستراتيجية بين القاهرةوواشنطن، ربما يرتبط أيضا بمحاولة ادارة باراك أوباما استعادة تأثيرها ووزنها الاقليمي أمام تنافس محموم بين القوتين العظميين، أججه الدخول الروسي على خط المبيعات العسكرية لمصر، كما أن ما تشهده عملية السلام من إنتكاسات بسبب الوسيط الأمريكى غير النزيه، بالإضافة إلى إنتصار الخيار الروسي في سوريا وأوكرانيا، قد دفع الادارة إلى محاولة الحفاظ على مناطق القوة التقليدية فى الشرق الأوسط. ووفقا لما أكده وزير الخارجية نبيل فهمي فإن القاهرةوواشنطن مهمان جدا لبعضهما، لاسيما فى ظل التهدديات الأمنية التى تواجهها منطقة الشرق الأوسط، فيما تنظر واشنطن بقلق بالغ لما اعتبره مراقبون تراجعا لنفوذها فى المنطقة، وهو ما يجعلها تفضل خيار الإبتعاد عن تدشين مأزق جديد في مصر، وأن الباب الملكي للعبور إلى قلوب وعقول المصريين، هو التكيف مع خياراتهم ودعم إرادتهم التى تحميها المؤسسة العسكرية.