من حق المرء أن يتساءل لماذا الآن هذه الانفراجة فى العلاقات الأمريكيةالإيرانية، ولماذا هناك بوادر تشير إلى إمكانية التوصل إلى حل للملف النووى الإيرانى فى إطار ما يطلق عليه «الصفقة الكبرى» (تشمل الملف النووى والقضايا الإقليمية والعلاقات الثنائية) بعد طول انتظار ومراوغة من جانب إيران من ناحية وتشدّد من جانب الغرب من ناحية أخرى، فقد شهدت الفترة من 2003 إلى 2005 محاولة لتليين المواقف بين واشنطنوطهران حول أزمة الملف النووى حينما كان روحانى كبيرا للمفاوضين، إلا أن النوايا الحقيقية لإيران بغية الوصول إلى هذه التهدئة لم يتم اختبارها بالمعنى الحقيقى، وعلى الجانب الآخر فإن واشنطن لم تُمهل الإيرانيين الوقت الكافى لتحقيق ذلك لأن هدفها ظل مُنصبا على تغيير النظام وليس التعامل معه من منطلق جديد يراعى الشواغل الأمنية للطرفين، وهو الأمر الذى أدّى إلى أن تسلك الولاياتالمتحدة مسلكا أكثر تشددا مع إيران وأن تتراجع إمكانات التفاوض المباشر فيما بينهما، والاعتماد بدلا من ذلك على حل الأزمة عبر مجموعة ال 5+1، والتى بدورها لم تتوصل إلى نتائج مرضية للجانبين خاصة بعد مجىء الرئيس السابق نجاد، وما أحرزته إيران منذ ذلك الحين من تطور تقنى متواصل بات يصعّب من إمكانات انفراج الوضع بين الجانبين. ولكن، تُرى ما الذى حدث الآن كى تلوح فى الأفق بارقة أمل لحل أزمة الملف النووى الإيرانى. إن الردّ على هذا التساؤل يتطلّب منا محاولة الخروج من الإطار الفنى الضيق للملف النووى الإيرانى وصفقات الحل التى طرحت فى هذا الصدد، والتى رُفضت من الجانبين على مدار السنوات الماضية، فنتجاوز ذلك للنظر إلى الأبعاد الإقليمية التى تشهدها المنطقة حاليا والتى لا شك أن لها دورا فيما آلت إليه التطورات الحالية بين البلدين من تغير. فلا يخفى ما خسره كل من الولاياتالمتحدةوإيران من عوامل تأثير على الساحة الإقليمية، الأمر الذى حثّ كل منهما على التفكير بواقعية لإعادة ترتيب معادلات التحالف الإقليمية. ●●● فعلى الصعيد الإيرانى نرى مسلسل الإخفاقات الذى فقدت معه طهران أهم حلفائها الإقليميين وأدواتها فى التأثير الإقليمى. فنظام البعث السورى يترنّح، وتضعف معه الحركات والمنظمات التى ظلّت تدور فى فلكه اعتمادا على دعمه السياسى ونفوذ طهران المالى والاستراتيجى كحزب الله وحماس، اللتين ظلتا الملاذ الأخير لكل من إيران وسوريا للضغط على إسرائيل وتحقيق توازن فى المعادلة السياسية فى المنطقة لصالحهما. أما على الصعيد الإقتصادى، فقد بدأت بالفعل العقوبات المفروضة دوليا وغربيا تنال من القدرة الاقتصادية الإيرانية بل وتُنذر بتذمّر شعبى قد يمتد ليهدّد أركان النظام السياسى الإيرانى. أما على الصعيد الأعمّ فإن أفول نجم الإسلام السياسى فى مصر كان نذيرا بعزل إيران سياسيا وخسارتها لما كانت تطمح إليه من مكانة فى العالم الإسلامى وجعل ميزان القوة الشيعى السنى فى المنطقة أميل إلى الأخير. ●●● وتواجه واشنطن تجربة مماثلة بالنسبة لمكانتها فى المنطقة تجعل التقارب مع طهران أحد آخر أدواتها التى تصبّ فى مصلحتها فى التحليل النهائى، فبعد أن تيقّنت الولاياتالمتحدة من أن مفاتيح الشرق الأوسط لا يمكن التحكّم فيها عبر المدخل الأيديولوجى، وأن الرهان على كسب أنظمة الإسلام السياسى السنى فى المنطقة والتى كانت تعطى لها ميزة نسبية تحاصر بها إيران وتعزلها عن محيطها الحيوى لا جدوى منها، يبدو أن واشنطن الآن بصدد تبديل خريطة تحركاتها فى المنطقة وإعادة النظر فى مكتسباتها الموروثة بشأن مدى الدور الذى يمكن أن يلعبه حلفاؤها لتعظيم مصالحها. فمن جهة توتّرت العلاقات الأمريكية مع القاهرة وهى أهم حلفائها وأكثرهم نفوذا وتأثيرا فى المحيط العربى بعد موجتين من الثورات لم تقف خلالهما واشنطن الموقف الذى انتظره منها المصريون. وإذا كانت واشنطن قد خسرت رهانها على الإخوان المسلمين كنموذج يمكن تطويعه خدمة لمصالحها ويحظى فى الوقت نفسه برضا الشعب ومن الممكن أن يكون له تأثير الدومينو فى المنطقة، فإن النموذج الآخر الذى تعتمد عليه واشنطن فى المنطقة وهو تركيا لم يعد ذا جدوى بعد أن أصابت الثورة المصرية طموحات الريادة التركية فى المنطقة فى مقتل، ومنها حلم استعادة النفوذ التركى القديم فى المنطقة والارتكان إليه لإلهاء الشعب عما يجرى فى الداخل، وتحولت السياسة التركية من هدف حل كافة المشكلات مع الجيران حتى باتت الآن تُحاط بجيران يكنّون لها الكثير من مشاعر الضغينة بل والعداء. والمتابع لخطاب أوباما أمام الجمعية العامة يجد أن إيران يمكن أن تحقق أهداف الولاياتالمتحدة الحيوية وهي: محاربة الإرهاب، ضمان انسياب البترول، منع انتشار أسلحة الدمار الشامل وأخيرا الدفاع عن حلفائها فى المنطقة. فتعاون إيران الإيجابى مطلوب فى تحقيق المصالح الثلاث الأولى، أما فيما يخص حماية الحلفاء، فالمطلوب من إيران ألا تقوم بدور معوق وهو أمر ممكن إذا ما تم التوصل إلى «الصفقة الكبرى». ●●● بقى النظر إلى ما ستعانى منه المنطقة العربية من جراء أى تقارب إيرانى أمريكى محتمل، وأول التبعات المتوقعة فى هذا الإطار هو ميل كفة التحكم فى مفاصل أمن الخليج إلى الطرف الفارسى خاصة إذا كانت أى صفقة أمريكية إيرانية قادمة ستعطى طهران حوافز إقليمية تضمن لها دورا أكبر فى التحكم فى أمن الخليج، وهو أمر يتعين معه الحذر ودراسة معايير استباقية يتخذها العرب للتعاون الأمنى فيما بينهم لصياغة منظومة سياسية أمنية تراعى المصالح العربية من جهة وتحد من التدخل الخارجى فى الأمن القومى العربى من جهة أخرى. ولا ننسى أنه إذا كان التقارب الإيرانى الأمريكى الحالى قد يحل فى الأجل المتوسط محل ما ترى واشنطن أنها ستفقده من مصالح نتيجة فتور العلاقة مع حلفائها التقليديين فى المنطقة، فالمفترض أن المصلحة الأمريكية بعيدة الأمد هو أن تعمّ الديمقراطية دول المنطقة لتثبت أركان الأمن فى الشرق الأوسط بلا رجعة، ومن هنا تأتى أهمية متابعة مستقبل الثورة المصرية والحراك السياسى فيها. فيبدو أن العالم قد وعى درس الثورة المصرية جيدا، وأدرك أن عليه احترام إرادة الشعب المصرى فى اختياراته السياسية وأنه لا يمكن الوقوف ضد هذه الإرادة. كما أدرك أن التماشى مع متطلبات الشعب المصرى ومسعاه لتحقيق الديمقراطية وعدم فرض حلول من الخارج هو الكفيل بتحقيق الاستقرار والديمقراطية ليس فى مصر وحدها ولكن فى أنحاء المنطقة العربية. ولكى يواكب هذا الواقع الديمقراطى مناخ إقليمى ودولى يتماشى معه فإن ذلك يحتاج من الولاياتالمتحدة إلى إعادة النظر فى أولويات الأمن فى المنطقة فتُدخل فى حساباتها مشاركة كل من الاتحاد الأوروبى وروسيا لتثبيت دعائم هذا الأمن، أما على الصعيد الإقليمى فإن أساس الإستقرار لن يأتى إلاّ من خلال بناء نظام عربى فى قلبه مصر ويتعامل بنديّة مع الأطراف الإقليمية على تخومه وأهمها إيران وتركيا.