«مأساة نص الليل».. وفاة أم وابنتها وإصابة أولادها ال 3 انقلبت بهم السيارة في ترعة بالبحيرة (أسماء)    الهلال الأحمر يعلن رفع قدرات تشغيل المراكز اللوجيستية لأعلى مستوياتها    نتنياهو يتحدث عن وكيل إيراني آخر وإبادة إسرائيل.. ما القصة؟    طلاق مكلف وتعويض قضية ينقذه، كم تبلغ ثروة أسطورة المصارعة هالك هوجان؟    رسميا.. قائمة بالجامعات الأهلية والخاصة 2025 في مصر (الشروط والمصاريف ونظام التقسيط)    هل الجوافة تسبب الإمساك؟ الحقيقة بين الفوائد والأضرار    لحماية نفسك من فقر الدم.. 6 نصائح فعالة للوقاية من الأنيميا    تدهور الحالة الصحية للكاتب صنع الله إبراهيم من جديد ودخوله الرعاية المركزة    بعد عمي تعبان.. فتوح يوضح حقيقة جديدة مثيرة للجدل "فرح أختي"    أكبر من برج بيزا، كويكب يقترب بسرعة من الأرض، وناسا تكشف تأثيره    نقابة التشكيليين تؤكد استمرار شرعية المجلس والنقيب المنتخب    خالد الغندور يكشف مفاجأة بخصوص انتقال مصطفى محمد إلى الأهلي    الأوقاف تفتتح اليوم الجمعة 8 مساجد في 7 محافظات    إحباط محاولة تهريب 8000 لتر سولار لبيعهم في السوق السوداء بدمياط    "الجبهة الوطنية" ينظم مؤتمراً جماهيرياً حاشداً لدعم مرشحيه في انتخابات الشيوخ بالجيزة    استمرار استقبال طلاب الثانوية العامة لاختبارات العلوم الرياضية بالعريش    حفل تخرج دفعة جديدة من طلاب كلية العلوم الصحية بجامعة المنوفية.. صور    وزارة الصحة تنظم اجتماعًا لمراجعة حركة النيابات وتحسين بيئة عمل الأطباء    طريقة عمل الآيس كوفي على طريقة الكافيهات    مصدر للبروتين.. 4 أسباب تدفعك لتناول بيضة على الإفطار يوميًا    سليمان وهدان: المستأجر الأصلي خط أحمر.. وقانون الإيجار القديم لم ينصف المواطن    العظمى في القاهرة 40 مئوية.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    جوجل تعوّض رجلًا التقط عاريًا على "ستريت فيو"    القبض على طرفي مشاجرة بالأسلحة البيضاء في الجيزة    تنسيق الجامعات 2025، شروط الالتحاق ببعض البرامج المميزة للعام الجامعي 2025/2026    أحمد سعد: ألبوم عمرو دياب مختلف و"قررت أشتغل في حتة لوحدي"    «هتفرج عليه للمرة الرابعة».. مي عز الدين تشيد بمسلسل «وتقابل حبيب»    ميريهان حسين على البحر وابنة عمرو دياب مع صديقها .. لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    "صيفي لسه بيبدأ".. 18 صورة ل محمد رمضان على البحر وبصحبة ابنته    سعاد صالح: القوامة ليست تشريفًا أو سيطرة وإذلال ويمكن أن تنتقل للمرأة    الخارجية الأردنية: نرحب بإعلان الرئيس الفرنسي عزمه الاعتراف بالدولة الفلسطينية    بعد تغيبه عن مباراة وي.. تصرف مفاجئ من حامد حمدان بسبب الزمالك    بعد ارتباطه بالانتقال ل الزمالك.. الرجاء المغربي يعلن تعاقده مع بلال ولد الشيخ    ترامب ينعي المصارع هوجان بعد وفاته: "صديقًا عزيزًا"    ارتفاع حصيلة القتلى ل 14 شخصا على الأقل في اشتباك حدودي بين تايلاند وكمبوديا    ادى لوفاة طفل وإصابة 4 آخرين.. النيابة تتسلم نتيجة تحليل المخدرات للمتهمة في واقعة «جيت سكي» الساحل الشمالي    إصابة 6 أفراد في مشاجرتين بالعريش والشيخ زويد    سعر المانجو والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    سعر الدولار اليوم أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية الجمعة 25 يوليو 2025    ما هي عقوبة مزاولة نشاط تمويل المشروعات الصغيرة بدون ترخيص؟.. القانون يجيب    «كان سهل منمشهوش».. تعليق مثير من خالد بيبو بشأن تصرف الأهلي مع وسام أبو علي    «العمر مجرد رقم».. نجم الزمالك السابق يوجه رسالة ل عبد الله السعيد    بدأت بفحوصات بسيطة وتطورت ل«الموضوع محتاج صبر».. ملامح من أزمة أنغام الصحية    4 أبراج «بيشتغلوا على نفسهم».. منضبطون يهتمون بالتفاصيل ويسعون دائما للنجاح    الثقافة المصرية تضيء مسارح جرش.. ووزير الثقافة يشيد بروح سيناء (صور)    الخارجية الأمريكية توافق على مبيعات عسكرية لمصر ب4.67 مليار دولار (محدث)    «دعاء يوم الجمعة» للرزق وتفريج الهم وتيسير الحال.. كلمات تشرح القلب وتريح البال    دعاء يوم الجمعة.. كلمات مستجابة تفتح لك أبواب الرحمة    داليا عبدالرحيم تنعى أسامة رسلان متحدث «الأوقاف» في وفاة نجل شقيقته    وكيل النواب السابق: المستأجر الأصلي خط أحمر.. وقانون الإيجار القديم لم ينصف المواطن    فلكيا.. مولد المولد النبوي الشريف 2025 في مصر و3 أيام إجازة رسمية للموظفين (تفاصيل)    محمود محيي الدين: مصر خرجت من غرفة الإنعاش    "كنت فرحان ب94%".. صدمة طالب بالفيوم بعد اختفاء درجاته في يوم واحد    أخبار كفر الشيخ اليوم.. مدرس يهدي طالبتين من أوائل الجمهورية بالثانوية سبيكة ذهبية عيار 24    نتنياهو يزعم أن إعلان فرنسا اعترافها بدولة فلسطين «يكافئ الإرهاب»    وزير الطيران المدني يشارك في فعاليات مؤتمر "CIAT 2025" بكوريا الجنوبية    هل لمبروك عطية حق الفتوى؟.. د. سعد الهلالي: هؤلاء هم المتخصصون فقط    خالد الجندي: مساعدة الناس عبادة.. والدنيا ثمَن للآخرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رقصة اللبلاب-الحلقة الثامنة
نشر في صدى البلد يوم 24 - 02 - 2012

وتغيرت أشياء كثيرة حول عفاف منذ أن تركها "حاتم " وجنينه فى أحشائها ، وترك لها نقود عملية الإجهاض فى ظرف ..ومعها ورقة صغيرة كتب لها فيها:"أحبك..نعم أحبك.. ولكننى لا أستطيع أن أتعامل مع هذا الواقع الجديد .. آسف للابتعاد .. فانا الآن فى طريقى إلى المطار .. سافرت إلى أمريكا لتحقيق الحلم الذى حدثتك طويلا عنه .. حلم دراسة السينما في بلاد السينما".
واكتشفت وهي تتذكر ذلك اليوم الأسود .. كم تغيرت الدنيا وتبدلت الأحوال .. رئيس التحرير الذى كان يمول رحلاتها للخارج، ويوافق عليها ويدعمها ويصد عنها الحاقدين الغيورين من نجاحها الراغبين فى دفن موهبتها بل ودفنها هى شخصياً حية ، لو استطاعوا .. رئيس التحرير المتعاطف معها والمؤمن بموهبتها،خرج ضمن من خرجوا من رؤساء تحرير الصحف والمجلات القومية فى حركة تغييرات صحفية جديدة،جاءت مع حركة تغييرات أخرى للوجوه القديمة في الحكومة والحزب الحاكم،والمؤسسات التقليدية،لإحلال وجوه جديدة تدين بالولاء والانتماء للحرس الجديد فى الحزب الحاكم ، بدلاً من الوجوه القديمة التى فاضت روائح فسادها .. وكان من بينهم بالطبع رئيس تحرير الجريدة التي تعمل بها ،والذى شنت إحدى الصحف المعارضة حمله ضده ، وأكدت بالوثائق والمستندات تضخم ثروته إلى مليارات الجنيهات من العمولات والرشاوى وبيع الأصول الثابتة للجريدة ، والمضاربة فى البورصة .. ولم يكد رئيس التحريرالجديد يتسلم عمله ، حتى توافد الجميع على مكتبه ينافقونه ويظهرون له آيات الولاء والطاعة ، ويتحدثون بالمرة ومن قبيل الشئ بالشئ يذكر عن الصحفية الطائرة عفاف ومحاباة الرئيس القديم لها وفضائحها وعلاقاتها ،بل ويختلقون من خيالهم قصصا ووقائع ، ليؤكدوا للرئيس الجديد مدى الظلم الذى وقع عليهم بسبب هذه الأفعى ، التى جعلها رئيس التحرير السابق تركبهم جميعاً وتدلدل رجليها .. ولذلك فبمجرد أن دخلت مكتبه مع زميلتين لها لتهنئته بالمنصب الجديد ، طلب منها أن تنتظر فى مكتبها ولا تغادره إلى أى مكان حتى يرسل فى طلبها لأنه يريد أن يتحدث معها في أمر ضرورى للغاية ..وابتلعت عفاف حبتا مهدئ لتهدئ من روعها .. وتواجه رئيس التحرير برباطة جأش .. وكانت تتوقع بالطبع أنهم عبأوه ضدها وأخرجوا لها القديم والجديد.. وظلت فى حالة شديدة من القلق والتوتر ، وظلت تقضم فى أظافرها بأسنانها لدرجة أن نزف الدم من شفتيها، حتى اتصل بها في النهاية مكتب رئيس التحرير وذهبت إليه فى الحال..ودار بينهما هذا الحوار الذي لن تنساه أبدا:
-إنتى بقى عفاف اللى فلقونى بيها.
* أيوه يا افندم.. "أنا".. أأمرنى حضرتك.
-إنتى عملتى إيه للناس عشان يكرهوكى بالشكل ده.
*حضرتك أناما بحبش أزكى نفسى .. لكن سيادتك عارف إن كل شخص ناجح له أعداء .. وأكيد حضرتك قابلت النوعية دى من البشر .
-وانتى شايفة بقه إنهم حاقدين عليكى وعلى نجاحك عشان كده بيهاجموكى .. طيب والبلاوى المتلتلة اللى حكوها عنك .. كلها كذب فى كذب .. والربع مليون دولار "بدلات سفر" اللى اتصرفت لك من الجرنال كانت برضه كدب .. إيه يا ستي السفريات دى كلها .. أمريكا اللاتينية والهند والصين وجنوب إفريقيا وباريس وسنغافورة .. إيه .. أبوللو ولا ابن بطوطة.
*يا افندم الرحلات دى كلها كانت شغل ..وعملت منها شغل كويس جداً وحققت أكثر من سبق صحفى .. وقابلت شخصيات مهمة جداً..اتكلمت لأول مرة تقريباً للصحافة المصرية.. "كاسترو" و"بينظير بوتو" قبل ماتتقتل طبعا.. وعملت حوار انفردنا به مع الدكتور أيمن الظواهرى فى كهف فى "تورا بورا".. وماعرفش سيادتك عارف ولا لأ ..إن انا أخذت أكثر من جائزة صحفية عن سلسلة تحقيقاتى المصورة والحملات الصحفية اللى عملتها ..يعنى الفلوس دى مادخلتش جيبى ..
وبدل السفر كنت باصرفه كله على تسهيل الشغل.. والعربية بتاعتى حضرتك واخداها بالتقسيط من الجريدة ..والشقة اللى ساكنة فيها هيه كمان خدتها عن طريق النقابة.. وبالتقسيط الممل.. يعنى كل الكلام اللى حضرتك سمعته ومش عارفه هو إيه .. لكن أقدر أخمن من كتر الإشاعات اللى طلعت عليّ..همه بيقولوا إيه بالضبط..أما حياتى الشخصية ..وليه اتجوزت وليه اطلقت ..فأنا ما اسمحش لحد يتكلم فيها أو يدوس لى على طرف .. وأظن حضرتك كمان موافقنى على الكلام ده .
ولم يعجب رئيس التحرير الجديد بلهجة التحدى التى تتحدث بها الصحفية المغرورة وإن كان قد لمس بعض المنطق فى كلامها .. فهو يعرفها جيداً كصحفية شاطرة ونشيطة ..وكان حريصاًعلى قراءة تحقيقاتها وحملاتها الصحفية، قبل توليه رئاسة تحرير الجريدة، وكانت من الصحفيات القليلات اللاتي لفتن انتباهه بشدة ..ومع ذلك فلم يرق له انفرادها طوال سنوات بالسفر وحدها إلى كافة أرجاء المعمورة ، وعدم إعطاء فرص مساوية لزملاء لها .
وقال لها: شوفي يا صحفية يا شاطرة.. إنتي من دلوقتي هتبقي مسئوولة عن الملفات الصحفية..ووريني شطارتك بقه ،وطبعا هنسحب منك الإشراف على قسم التحقيقات الصحفية..وأنا كلفت به فعلا زميل آخر .
ورغم اعترافه لها بتقديره لعملها.. لكنه رأى ضرورة منح الآخرين نفس الفرص التى منحت لها، لعلهم يثبتون وجودهم كما فعلت هى .
وفهمت عفاف الرسالة ..فلم تعد الملكة المتوجة والصحفية المفضلة ، بل أصبحت البطة السوداء، وقرار اشرافها على الملفات ، معناه تجميدها وإبعادها عن الأقسام اليومية الحيوية بالجريدة .
-أيوه كده اتحطيت رسمى فى الخزانة .. لأ خزانة إيه قولى حطوكى فى التلاجة .
ورغم قسوة هذا الإجراء عليها وشعورها بأن السجادة قد سحبت فجأة من تحت أقدامها ، خاصة وأن الضربة الجديدة جاءتها في وقت قاتل وبعد فترة قصيرة للغاية من انتهاء علاقتها بحاتم وقصة هروبه منها ..إلا أنها كانت قد اعتادت على الضربات والصدمات..ولم تعد تعرف معنى الحزن الشامل الساحق أو الفرحة الطاغية..فكل شئ باهت ..وكل الامور بين بين ..والحقيقة الوحيدة هي أنها لا يمكن أن تستسلم أبدا أو تتنازل عن مواصلة الطريق حتى النهاية..والدنيا خط بياني يرتفع وينخفض..وتعلم أنها لا يمكن أن تنتصر على طول الخط، أو تفوز بكل المعارك..فلابد من هزائم..ولابد من كبوات وضربات..والضربة التي لا تقتلها تقويها وتزيدها عندا واصرارا.
وبروح العنيدة المقاتلة ، نجحت عفاف في أن تقنع نفسها ولو مؤقتا بأنها تشبعت بالشهرة والصحافة والسفر .. وآن الأوان لكي يكون لها بيت وأسرة قبل يذوي الشباب وتخمد الصحة ويذبل الجمال .. وإذا كان على الصحافة .. ملحوقة ..بكرة يتغير رئيس التحرير .. أو على الأقل تجد مدخلا مناسبا للوصول له ..وتصحيح أوضاعها في الجريدة ..فقد علمتها التجارب أن لكل شخص مدخلزز وكل عقدة- كما يقولون- ولها حلال..وآهي فرصة ترتاح شوية ، وترجع تركز تانى مع الحزب ، خصوصاً بعد أن علمت أن بعض قيادات اليسار رشحوها لخوض انتخابات مجلس نقابة الصحفيين الذى يسيطر عليه الإخوان والناصريون ، وليس به أى ممثل لليسار سوى عضو واحد مرشح بشدة للخروج من المجلس بعد أن أقحم نفسه فى معارك مع من لايرحمون ، ففتحوا عليه النار ،وشوهوا صورته وسمعته ، وطعنوا فى ذمته المالية ، ووزعوا منشورات ضده على كل المؤسسات الصحفية قبل الانتخابات بشهور ، حتى يقطعوا عليه طريق النجاح .
لكن الحزب هو الآخر لم يعد كما كان .. وأصبح خطابه السياسى باهتاً وداجناً .. وأصبح حزباً شبه موال للحكومة ، منذ أن تخلى زعيمه الرمز اليسارى القديم عن الرئاسة بحكم السن، وترك الحزب لأحد الانتهازيين المعروفين بولاءاتهم المتعددة .. وبعمالته القديمة للاتحاد السوفيتى قبل سقوطه ، وحصوله على أموال من الحكومات الشيوعية المتوالية في موسكو،مقابل عمالته لجهاز الاستخبارات الروسي.. ال"كى.جى.بى" .. وهو معروف أيضاً بعلاقاته المتينة مع الأمن ووزراء الداخلية المتعاقبين .. ومعركته الحقيقية ليست مع النظام، ولكن مع التيارات الإسلامية ، وخاصة الإخوان المسلمين الذين يعتقد أنهم أخطر بكثير من أى حكم عسكرى بوليسى .. وأنهم لو نجحوا فى الوصول إلى الحكم فسوف يشنقون أى معارض ويفرضون على الناس حكماً أشبه بنظام طالبان فى أفغانستان قبل ضرب أمريكا لها وطردهم وتولية العميل "كرزاى " .. وأنه شخصياً إذا خُير بين هذا النظام وحكم الإخوان ، فسوف يختار النظام بكل تأكيد .. وقد ارتضى رئيس الحزب الجديد بضعة مقاعد يتركها له الحزب الحاكم فى الانتخابات من باب ذر الرماد فى العيون ،ودأبوا على تعيينه هو شخصياّ عضواّ بمجلس الشورى منذ سنوات عديدة، ويسمحون له بالكتابة فى أكثر من صحيفة قومية .. وهو ضيف ثابت على برامج التليفزيون الرسمى .. ويطبعون كتبه فى هيئة الكتاب الحكومية ، وما خفى كان أعظم .. المهم أن الحزب لم يعد كما كان أيام السادات ، حين كان ممثل المعارضة الأعلى صوتا لنظامه، لدرجة أن الرئيس الراحل قام بمصادرة أعداد كثيرة من الجريدة الناطقة باسم الحزب لجرأتها وفضحها للمستور.. أما الآن فقد تحول الحزب إلى مجرد يافطة .. وبدأت قياداته تختلف وتتقاتل وتتهم بعضها البعض بالعمالة للنظام ، أو على الأقل التواطؤ معه..وأصبحوا لا يتورعون عن نشر غسيلهم القذر على الناس .. ويتعاركون على مقعد الرئاسة على شاشات الفضائيات ، وتحدى رئيس الحزب الجميع .. وأكد أنه جالس على تلها حتى خراب مالطة .
فأين هو الحزب الذى تربت عفاف فى أحضانه وبين جدرانه .. وأين الشعارات.. وأين الشباب الثورى .. بل وأين الحزب القديم تحت الأرض .. لقد تفرق الرفقاء هم أيضاً.. وسافر بعضهم للعمل فى الخليج وتحول البعض إلى أصحاب دكاكين لحقوق الإنسان ، يحصلون على تمويلهم من فلوس المعونة الأمريكية ..أو الجهات الأوروبية المانحة ، ويتاجرون بقضايا الفساد والتعذيب فى السجون وأقسام الشرطة واضطهاد الأقليات و قمع الحريات وقانون الطوارئ من أجل إعطاءأمريكا والغرب أوراق يضغطون بها على النظام ليحصلوا منه على مزيد من التنازلات في حق الأمة والوطن.
وكادت المناضلة القديمة-ولو بالاسم- تجن من التفكير .. ماذا تفعل..وإلى من تذهب.. بعد أن جمدوها فى الجريدة ، وباعوا الحزب للحكومة؟! .
-23-
وظهر "كنعان " فى حياتها فجأة ، وكأن السماء التى لم تتوجه أبداً لها ، ولم تطلب شيئا منها فى حياتها .. قد أرسلته إليها فى الوقت المناسب ليكون "القشة " التى ستنقذ الغريق .
فقد كانت عفاف في أشد حالات اليأس والاحباط حين قادتها قدماها إلى "الجريون" لتحتسى زجاجة بيرة وتفكر فى القادم المجهول .. وهناك التقت بزميل قديم لها فى الجامعة .. كان ناشطاً هو الآخر فى اتحاد الشباب الطليعى .. وعلمت أنه توقف عن ممارسة أى نشاط سياسى حتى يقبلوا تعيينه فى الخارجية .. وكانت قد سمعت من قبل من أصدقاء مشتركين لهما أنه تنقل للعمل فى أكثر من سفارة وقنصلية مصرية فى الشرق والغرب، واستقر به الحال فى سفارتنا بالأردن ..وهو ما أكده لها "عاصم" ، ثم اعتذرلصديقه الذى كان معه لأنه نسى تماما أن ًيعرفه على عفاف الرفيقة القديمة والصحفية اللامعة .
-أهلا وسهلا أنا اسمى كنعان .. دبلوماسى أردنى من أصل فلسطينى ..وأخدم هنا فى سفارتنا بالقاهرة منذ حوالى ستة أشهر ..وأنا سعيد جداً بالتعرف اليكى .. وبصراحة كان نفسى اتعرف عليكى من زمان وبالتحديد منذ أن قرأت لك تحقيقاتك الصحفية من مخيمات غزة.. جرأة لم نعتد عليها فى الصحافة العربية ..وقصص إنسانية أدمت قلوبنا وأسلوب يدل على أديبة وليس فقط صحفية ..
*يا افندم..أخجلتم تواضعنا.. انا اللى لياّ الشرف .. وتضحك .. بس هوه حضرتك بتتكلم دايماً كده بالنحوى .
ويتدخل "عاصم" فى الحديث بعد أن لاحظ الإحراج الشديد الذى بدا على وجه "كنعان " من ملاحظة عفاف .
أصل الأستاذ شاعر ..وشاعر جامد جداً كمان ومش بس دبلوماسى.
وتتمتم فى سرها "وقعت يا بنت ولاحدش سما عليكي".. شاعر تانى ..هو احنا مش حانخلص بقه من حكاية الشعراء دي. ويسألها "عاصم" بلهفة: حضرتك قلتى حاجة .. وتستدرك هى قائلة .. هوه انتوا هتفضلوا موقفيني كده كتير .. وبسرعة يردد عاصم وكنعان فى لحظة واحدة .. ياه .. اتفضلى .. اتفضلى .
وكان هذا هو أول لقاء يجمع سلوى بكنعان..وامتد حوار "الجريون" حتى الصباح .. وشعرت طوال الجلسة بأن كنعان كان مبهوراً بها ولم يرفع عينه عنها طوال الحديث ، الذى تطرق لكل شئ .. السياسة .. الفن .. وأحوال الصحافة والتيارات الصاعدة فى المجتمع ..وحركات الاحتجاج المتزايدة في المصانع والشركات .. ومعنى إضرابات العمال ومستقبل الحكم.. واحتمالات التوريث.. ومصير البلد ..واحتمالات صعود التيار الديني..وخطر التدخل الخارجي .. وموقف أمريكا .. وتداعيات الحرب فى العراق ولم يخلُ الحوار بالطبع من طرفة أو نكتة سياسية .
بل وأدى إفراط الثلاثة فى الشراب ، للحديث عن الجنس من باب النكت الصريحة فى البداية.. ثم من باب حب الكلام فى الممنوع والرغبة فى كسر "التابو" المجتمعى الذى يحيط العلاقات الجنسية بقدر كبير من السرية وبهالة من التخيلات والتصورات فى مجتمعات ترقص على السلالم ..فلا هى تحررت من عقدة التراث الشرقى المحافظ ، ولا هى تغربت بالدرجة الكافية التى تتيح للعشاق الإعلان عن عشقهم بوضوح..فالناس في بلادنا يرتدون خلال يومهم أكثر من وجه ويديرون دفة الحديث حسب السياق والظرف الاجتماعى .. وتجد الواحد منا يتحدث فى الدين كما لو كان ولياً من أولياء الله الصالحين ،إذا اقتضى الأمر، ومجرى الحديث ذلك، أوإذا وجد محاوريه من محدثي الايمان والمتدينين الجدد .. وهو نفسه قد ينقلب خلال ذات الجلسة إلى "خلبوص" كبير يروى مغامراته مع النساء وصولاته وجولاته فى الخمارات وغرز الحشيش ، إذا انحرف الحديث -وعادة ما ينحرف- بفعل كلمة السر .. وهى غالباً ما تكون نكتة جنسية، يلقيها أحد الحاضرين على حين غرة، فتنقلب دفة الحوار..وتتحول الى تسابق في القاء النكت الجنسية، وخاصة المطعم منها بلمحات سياسة .. ويستجيب الجميع بالضحك والغمزواللمز ، ويبدأ كل واحد منهم فى استعراض ما يحفظه من نكات ،فتتحول الجلسة الوقورة إلى مسخرة .. وتبدأ الأقنعة تسقط عن الوجوه .. لا فرق بين مصرى وسودانى أو بين شامى وخليجى .. فكلنا عرب .. وكله عند العرب صابون .
لكن عفاف التى أخذت عهداً على نفسها بألا تسقط من جديد فى دائرة المتعة المجانية ، وأن تختار لنفسها عريساً تغسل به وجهها الملطخ بالآثام والمغامرات الطائشة ، وتعيد ترتيب وضعها الاجتماعى ..وتتحول من خانة المطلقة العالقة فى أوحال العلاقات العابرة إلى سيدة صالون وصاحبة بيت قائم ودائم ومستقر ..بذلت جهداً كبيراً حتى لا تنجرف مع شهوة الحديث الفاجر ، وربما تسقط من أول لقاء فى عيون "الزبون" الجديد ، الذى استشفت بقرون استشعار الأنثى المجربة أنه طوق الإنقاذ الأخير لسمعتها ومستقبلها الصحفى والاجتماعى المحاط بالغموض .. وتصنعت الخجل .. وقاومت بقدر ما تستطيع تأثير المسكر .. وحاولت السيطرة على حركاتها ولفتاتها ووزن كل كلمة تخرج من فمها قبل أن تقولها ،وبذلت جهداً خارقاً فى ألا تفلت منها ضحكة ماجنة، أو حركة عابرة تدل على طيشها وعدم اعتدادها بما تحيط به السيدات الشرقيات أنفسهن من جدية مفتعلة وحياء كاذب .. وأفلحت الخطة .. وانتهى اللقاء ، وكنعان غارق حتى شوشته فى الإعجاب والانبهار بالصحفية المصرية الجريئة والمناضلة اليسارية التى تخطت منتصف العقد الثالث من عمرها ، لكنها تبدو أصغر من ذلك على الأقل بخمس سنوات ، بسبب ملامحها الطفولية البتولة،التي ظلت تعطيها أقل كثيرا من سنها، رغم بعض التجاعيد التي بدأت تظهر على وجهها بسبب الافراط في السهر والتدخين وتعاطي المسكرات..وتبادل الثلاثة أرقام " المحمول".
وخرجت عفاف من "الجريون " لتقود سيارتها إلى شقتها الجديدة فى المعادى، والتى حصلت عليها بوساطة من عضو فى مجلس نقابة الصحفيين فى أحد مشروعات الإسكان المتوسط برخص التراب وبالتقسيط المريح جداً ، وأثثتها بقطع موبيليا بسيطة، تتناسب مع سلوكها العملى ، وعدم انبهارها بالطرز التقليدية "اللوى سيز.. واللوى كانز" والأثاث الكلاسيكى الذى يعشقه الشرقيون .
فقد كان أثاث شقتها لا يزيد عن مجرد انتريه أمريكى مريح ، تتحول كل قطعة فيه عند الحاجة إلى سرير .. الكنبة والكراسى .. حتى ينفعها فى الزيارات القصيرة لوالدها ووالدتها وشقيقها وعائلته حين يزورونها فى بيتها من وقت لآخر، حين تسمح ظروفهم بذلك ،بعد أن فشلت في تحقيق أمنيتها بأن ينتقلوا للعيش معها في القاهرة، بسبب ارتباطهم الوثيق ببيتهم في كفر الزيات، وعمل شقيقها، وارتباط والدها بالحزب، الذي لا يزال يتولى رئاسة أمانته بالمحافظة.
وكانوا بدلا من الانتقال الكامل للاقامة معها في القاهرة، يقومون بزيارات سريعة لها، ويقضون معها أياماً قليلة يعودون بعدها إلى البلد .. أما غرفة النوم التى اختارتها ، فقد كانت هى الأخرى بسيطة للغاية ، ومصنوعة من "الفيرفروجيه" أو الحديد المشغول المطعم بالخشب .. ودولاب "شيك " يحوى ملابسها العصرية ..ومعظمها بنطلونات استريتش أو قماش أو جينز وتى شيرتات مفتوحة الظهر .. وجواكت جلدية .. وبلوزات قطنية اشترت معظمها من رحلاتها العديدة إلى الخارج .. فهى لاتطيق على جسمها سوى الأقطان ، لأنها تتعرق بسرعة بسبب مرضها بالأملاح .
ووضعت عفاف رأسها على المخدة ونامت بكامل ملابسها .. وحلمت بفارس يقتحم غرفة مكتبها ويحملها بيد واحدة ، وفى اليد الأخرى سيف يضرب به كل أعدائها فى الجريدة ، ويشج به رأس رئيس التحرير الجديد الذى حرمها من امتيازاتها الاستثنائية وركنها على الرف .. ونامت بعمق لم تعرفه منذ سنوات طويلة .. واستيقظت قرب العصر لتجد أكثر من عشر مكالمات لم يرد عليها على تليفونها المحمول من كنعان .. فتناولت كوبا كبيرا من النسكافيه باللبن حتى تفيق من سهرة الأمس،واعطت نفسها فرصة لتفكر فيما ستقوله له لكنه لم يمهلها وقتاً كافياً للتفكير .. واتصل بها مرة أخرى وأمطرها بوابل من كلمات الإطراء والإعجاب .. وتمنى أن تعتبره صديقاً لها .. وتطلب منه ما تشاء .. وفى نهاية المكالمة طلب دعوتها على العشاء ،فترددت قليلاً ثم وافقت .. واستأذنته في اختيار مطعم قريب من بيتها على كورنيش المعادى ، لأنها متعبة ولن تستطيع الخروج والذهاب إلى الجريدة اليوم .. وستنزل من بيتها خصيصاً لتلبية الموعد .. واحتارت كثيرا فيما ترتدى له .. فهى لم تعتد ارتداء الملابس "السواريه " سوى فى الأفراح ، والحفلات التى كانت نادراً ما تحضرها فى افتتاح وختام المهرجانات التى كانت تذهب إليها وذراعها فى ذراع "حاتم" أيام علاقتها به..واستقرت فى النهاية على ارتداء فستان بسيط للغاية .. اشترته من أحد "المولات " فى مصر الجديدة .. وأغرقت نفسها فى العطور .. وذهبت لأول مرة منذ زمن بعيد لتصفيف شعرها عند "كوافير "قريب من منزلها .. وراحت لتقابل " كنعان " كأنثى، ولأول مرة منذ فترة طويلة بدون بنطلون جينز أوتى شيرت قطني .. وبدون عملية ولا استرجال .
-24-
ولم يخف الدبلوماسي الأربعيني دهشته حين رأى عفاف للمرة الثانية بصورة تختلف تماما عن لقائهما بالأمس..فهي اليوم الأنثى الكاملة ..شياكة وفتنة وثقافة وجمال.. وأخذ يحدثها طويلا عن هذا الجمال المصرى الأصيل وهذه الفورة الأنثوية التى كانت تخفيها خلف الملابس "الكاجوال " .. والحقيقة أن عفاف كانت تمتلك بالفعل إمكانيات أنوثة ملفتة تؤهلها لو أرادت لكى تكون إحدى ملكات الإغراء .. عيون وسيعة عسلية داكنة .. وفم صغير وغمازة مميزة تحت الذقن .. وخصر نحيل ..وجسد أفعوانى شهى .. وساقين جميلتين ملفوفتين وبشرة فاتحة السمار .. وصدر ناهد وبارز فى غير مبالغة ولا ابتذال .. وكيف لا وهى لم تلد ولم ترضع .. ولم تعرف الإنكفاء طوال حياتها وحتى وهي فى بيت أمها على حلل المحشى و"طشوت" الغسيل .. وتبدل الحال تماماً عن حوار الأمس .. وبدأ الشاعر الدبلوماسى يلقى عليها بعضاً من أشعاره الرومانسية .. حدثها عن حقول الكرم وزقزقة العصافير وجمال البيوت الأردنية العتيقة والبوابات التاريخية .. ورائحة البنفسج والزهور التى تعانق الصباح وزجاجات العطر وأوردة السحر .. وشبق المشاعر الملتهبة .. وحين فاجأته بالسؤال عن حياته الاجتماعية.. وجم قليلاً وأطرق رأسه فى طبق الطعام ، ثم حكى لها قصة زواجه من ابنة عمه وأطفاله الثلاثة الذين أنجبهم منها .. وعذابه الطويل معها لأنها لا تفهمه ولا تشعر بأحاسيسه كشاعر مرهف وسياسى مهموم بقضايا الوطن الكبير من المحيط إلى الخليج .. لذلك فقد تعود ألا يصحبها معه فى العواصم التى يعمل بها ممثلاً لبلاده .. وأن يتركها لبيتها الذى لا تريد أن تبرحه ، وأطفالها الذين استغنت بهم عنه وعن عشرته ونسيته أو تناسته ..لايهم .. الأهم أنه تحول بالنسبة إليها إلى مجرد ممول ، يرسل إليها بحوالات النقود لتدفع فواتير الإيجار والغاز والكهرباء وبنزين السيارة ومصاريف المدارس.. ولاشئ فوق ذلك أو تحته ، فقد انفصلا إنسانياً وجسدياً منذ سنوات لم يهتم بإحصائها .. وهو حتى حين ينام معها من باب حق المعاشرة الزوجية .. فإنه لا يشعر تجاهها بأيه أحاسيس ..وينجز العملية بشكل بارد روتينى وآلى وكأنه فى مهمة كريهة ، عليه ان يقوم بها،ليرتاح ضميره ولايشعر بأنه يحرمها من أحد حقوقها عليه .
ولم يخف كنعان أيضاً أنه وسط هذا الجفاء دخل فى نزوات نسائية عابرة ، لكنه لم ينجذب فعلياً إلى أى امرأة عرفها أو أقام علاقة معها .. ولم يشعر أبداً فى حياته، رغم كثرة من التقى بهن ومن تعامل معهن من النساء بحكم عمله .. بمثل هذا الشعور الذى ملك عليه نفسه حين قابلها صدفة بالأمس .. وقال إنه لم يكن يؤمن بالحب من أول نظرة حتى التقى بها وأحس وكأنه يعرفها منذ زمن بعيد .
وسكتت عفاف .. علامة الرضا والسعادة بما يقول .. وتصنعت الدلال .. ثم قالت بنعومة متصنعة:
-كده من أول مقابلة .. إنت مش شايف إنك بتبالغ حبتين.
* وحياتك وحياة عيونك الحلوين .. أنا صادق فى كل كلمة أقولها لك ، ولم يعد فى العمر بقية طويلة من الوقت لنضيعه فى الكر والفر .
-إيه ده .. إنت بتحاول تكبر نفسك .. إنت لسه فى عز شبابك ورجولتك ..وأكيد اتجوزت صغيرجداً .
* يعنى .. خمنى كده عمرى كام سنة .
- أربعين سنة بالكتير .
* لا .. إنتى بتحاولى تجاملينى .. أنا عمرى 48 سنة .. لكنى أشعر أننى ولدت من جديد حين رأيتك .
- دى اسطوانات ..بقه.. أنا كنت فاكرة إن احنا المصريين بس اللى غاويين اسطوانات ..
* لا وحياتك .. أنا صادق تماماً فى كل كلمة قلتها لك .
ولم ترد سلوى أن تستمر فى ابتزاز مشاعره ، حتى تسمع ما يرضى غرورها ومشاعرها كأنثى خرجت لتوها من تجربة اعتصرتها وهزت ثقتها فى نفسها .. وبادلته حديث المجاملات ، وحدثته هى الأخرى عن إعجابها بذوقه وطريقته فى النقاش واختياره الأنيق لملابسه .. وأنه "جنتلمان " حقيقى .. وإنسان جميل ورقيق المشاعر .. واعترفت له بأنها لا تستطيع أن تنكر انبهارها به ، إلا أنها لا تستطيع في نفس الوقت إخفاء قلقها من مستقبل هذه العلاقة ، خاصة وأنها سيدة مطلقة ، وتراقبها ألف عين وعين .. وأنها لم تقبل دعوته على العشاء ، إلا لأنها متأكدة من أنه شخص راق ورجل محترم، يقدر مشاعر الأنثى ،ويفهم معنى الصداقة .. صحيح أنها قابلته بالأمس فقط .. لكن خبرتها فى الحياة والشخصيات الكثيرة التى قابلتها جعلتها قادرة على فرز الناس ، وهى تعتمد كثيراً على حاستها التى لم تخيب ظنها سوى فى مرات نادرة فى حياتها ، انخدعت فيها فى بعض الناس ، ولكنها لم تفقدها ثقتها فى أنهم مجرد استثناء لا ينفى القاعدة بل يؤكدها .
ومر اللقاء على عفاف وكنعان كلمح البصر .. وشعر الاثنان بأنهما خلقا ليكون أحدهما للآخر .. فهو يريد عشيقة أو صديقة أو زوجة لايهم .. فأيام الاغتراب طويلة والعمر يمر بسرعة .. وهى سيدة جميلة ومثقفة وشديدة الذكاء وتفهمه بسرعة مدهشة ، وتختلف تماما عن زوجته "النكدية" وصديقاته العابرات .. أما عفاف فقد وجدت فيه الملاذ الأخير ،والفرصة التى لا تأتى فى العمر سوى مرة واحدة ليبدأ الإنسان المثقل بالذكريات والمفعم بالهموم ،حياة جديدة .. وأحست حين سمعته يعلن لها حبه منذ اللقاء الأول ، بأنها ولدت بالفعل من جديد ، لكنها تعلمت الحذر وخافت من تكرار مأساتها مع "حاتم" .. وتعددت لقاءاتها به ..وإن لم تخرج أبداً عن النص أو الخط الذى رسمته من البداية لمستقبل العلاقة .. الزواج .. ولا شئ سوى الزواج .. ولا يهم إن كان متزوجاً .. فزوجته تعيش بعيداً عنه وعنها .. وهو سيكون كله لها ، وسيسافر من وقت لآخر لرؤية أولاده ، وهى لن تطالبه أبداً بتطليق .."ضرتها " .. فهى أيضاً لديها عملها وطموحها الذى لم تكمله بعد .. وأجلته مؤقتاً حتى تذهب العاصفة ، وتتغير الأوضاع فى الجريدة ، وتنعدل كفة الميزان لصالحها مرة أخرى .. وكانت قد فكرت من قبل فى خطة للخلاص من هذا الحصار الذى فرضوه عليها ، وحاولوا من خلاله لجم صعودها ووقف نموها السرطانى .. فلماذا لا تعمل وتكتب فى إحدى الجرائد الخاصة التى أصبحت أكثر من الهم على القلب ، ويصدرها رجال أعمال ، يريدون أن يغسلوا سمعتهم ويصححوا صورتهم أمام الناس، بما ينفقونه على هذه الجرائد الخاصة من ملايين قليلة لا تقارن بالمليارات التى حصلوا عليها بالسلب والنهب ، وتسقيع الأراضى ، والحصول على مئات الملايين من قروض البنوك لحساب مشروعات وهمية وأصول ثابتة غير موجودة .. وهم يستخدمونها أيضا كفزاعة لخصومهم في السوق وداخل الحكومة نفسها، لارهاب كل من يحاول التفتيش في أوراقهم القديمة، والبحث عن اسرار صعودهم ومصادر ثرواتهم .. ويوجهون موضوعاتها ومقالات كتابها لخدمة مصالحهم ، والانتقام ممن يعطلها أو يحاول التشويش عليهم، أوفضح فسادهم وعملياتهم المستمرة لنهب ثروات الوطن ومص دماء الناس .. ويستعملونها أحياناً ك"ورنيش" لتلميع صورتهم أمام المجتمع .
وغير الصحف الخاصة ، هناك المحطات الفضائية التى لا يمر شهر واحد الآن من دون الإعلان عن بدء بث قناة جديدة منها .. ورفقاؤها اليساريون متوغلون فى هذه وتلك ، ويحتكرون الكتابة فى معظم هذه الصحف ، ويعدون ويقدمون أشهر البرامج فى الفضائيات الجديدة .. وعلاقتها بهم لا تزال على ما يرام ، رغم بعض الرذاذ الذى طال صورتها وسمعتها ، لكنها قادرة على التعامل معهم واستعادة ثقتهم وكسب ودهم .. وهى مستعدة بما تملكه من ذكاء وبعض الموهبة للاشتراك فى عمليات التشويه والتسفيه والاساءة لكل الرموز وإهالة التراب على الماضى والحاضر ، ورهن المستقبل بيد أصحاب الدكاكين الإعلامية الجدد الذين تتضخم ثرواتهم وذواتهم كل يوم ، ويعمل لهم النظام ألف حساب .. فهم إن لم يكونوا جزءا منه وستر وغطى عليه ، فلا مفر من أن يكونوا فى النهاية تحت السيطرة .. حتى لا تنفلت الأمور ، ويتحول الديكور الديموقراطى إلى سيرك كبير للفوضى .. وساعتها لا يعرف أحد ماذا يمكن أن يحدث .. فالمنطقة كلها تعيش فوق سطح ساخن .. وأى حركة غير محسوبة بدقة ، يمكن أن تقلب السحر على الساحر .. والإضرابات العمالية المحدودة واحتجاجات الموظفين من أجل المطالبة بعلاوة أو زيادة جنيهات قليلة إلى بدلاتهم وحوافزهم .. والدعوات المتتالية للعصيان المدنى على الإنترنت وأرقام المحمول العشوائية .. يمكن فى حالة استغلالها من قبل تيار واعى ومنظم أن تتحول إلى ثورة شعبية تقلب الطاولة على الجميع .
وعفاف تدرك من خلال ما اكتسبته من خبرة وماعرفته من معلومات ممن احتكت بهم من مصادر كل تلك التقاطعات والتشابكات .. وتعلم من أين تبدأ ومع من وإلى ماذا تريد أن تصل .. إذن فلا خوف عليها ، ولا قلق على مستقبلها وكل ما ينقصها الآن رجل كامل ومحترم ..تضع ذراعها فى ذراعه ، وتتحدى به نظرات الريبة وقعدات النميمة .. وليس هناك أفضل من كنعان ليقوم بهذا الدور ، ويعيدها إلى خانة السيدات المحترمات الشريفات وسيدات الصالون.. وهى لاتريد منه شيئاً .. فلديها بدايات كل شئ .. وهي لا تريده أن ينفق عليها .. فمرتبها يوفر لها الحد الأدنى من الحياة الكريمة .. وعملها الإضافى فى الصحف الخاصة أو الفضائيات سيغنيها عن أن تمد يدها إليه، أو الى غيره .. وهى تعلم انه يرسل جزءاً كبيراً من راتبه لزوجته وأطفاله فى الأردن ..وأن حياته ومظهره كدبلوماسى تستقطع باقى دخله ، وربما لن يبقى له شئ ذى بال لكى ينفقه عليها ، لكن هذا لا يقلقها على الإطلاق ، ولا يمثل بالنسبة لها أدنى مشكلة .. هى فقط تريده "بروش" من الألماس الحر على صدرها .. وتريد منه طفلآً .. نعم تريد طفلاً تعوض به الأمومة التى حُرمت منها، أو التي أجبرت على الحرمان منها .. فهى فى النهاية أنثى ..كرهت أيام الانفلات والمجون و"الصرمحة " وتريد أن تعيش وتستقرمثل بقية خلق الله .. وهى لن تكون أفضل من والدها الذى أحس بقرب الأجل ، فأفاق فجأة من وهم أفكاره القديمة .. واستيقظت والدتها مرة ، فوجدته يصلى الفجر سراً ، وكأنه أحد المسلمين الأوائل فى بيت من بيوت الكفار .. وكانت تلك هى بداية دخول الايمان مرة أخرى الى بيتهم العريق..وأمها هى الأخرى ارتدت غطاء الرأس ، بعد أن قالت لها إحدى جاراتها إن أقرباء لها جاءوا لزيارتهم مرة وشاهدوها على السلم .. فسألوها .. إنتوا عندكم جيران مسيحيين هنا فى البيت .. فلم تعد هناك سيدة فى مثل سنها تخرج بشعرها بدون غطاء للرأس ، إلا إذا كانت مسيحية أو مذيعة تليفزيون ، أو عضوة فى مجلس الطفولة والأمومة !.
ولذلك لم تفاجأ كثيراً حين أخبرها شقيقها "فريد" بأنه حجز تذكرتين له ولوالدتها فى رحلة لأداء عمرة المولد النبوى الشريف .. وحين علمت أن والدها أصبح يواظب على الصلاة .. وعدته بأن تتكفل بنفقات أدائه لفريضة الحج، مما تبقى لها من مدخراتها التى جمعتها من فائض بدلات السفر ، وقيمة الجوائز المالية التى حصلت عليها عن مجموعة حملاتها الصحفية.
ولم يحاول كنعان التسويف كثيراً فى أمر الزواج .. خاصة بعد أن أصبح متيماً بها ، وأحس أنها بدأت تتهرب من لقاءاته ، ثم لاترد على تليفوناته .. كوسيلة للضغط عليه حتى تعرف إلى أي مدى وصلت درجة تعلقه بها ، وتجعله يصل بنفسه إلى قرار الزواج بها ، كحل وحيد لاستمرار العلاقة .. وكان لها ما أرادت .. ونُشر خبر وصور حفل الزواج الذى أقيم فى واحد من فنادق الخمس نجوم فى مصر فى صفحات المجتمع بمعظم الجرائد والمجلات .. وكان هذا هو الطلب المادى الوحيد الذى ألحت عليه ، حين فاتحها كنعان فى أمر الزواج .. فقد كانت تريد للكل أن يعرف .. وأرادت أن يكون حفل زفافها ليلة من ألف ليلة وليلة ، تشعر خلالها بأنها عروس بحق وحقيق .. وتنسى الأيام السوداء التى عاشتها والحفل الأجرب الذى أقامه لها زوجها الأول فى قاعة أفراح كحيانة فى نادى اجتماعى بطنطا .
كانت تريد ليلة تليق بالصحفية اللامعة ، وكاتبة المستقبل .. والعريس دبلوماسى ، والمدعوون سفراء ورجال خارجية.. وسيدات مجتمع.. وصحفيون وصحفيات ومذيعات وفنانون.. وأقطاب اليسار وزملاء الجريدة .. ولم يحضر الحفل من كفر الزيات سوى عائلتها الصغيرة فقط .. أبوها وأمها وشقيقها وزوجته وولديه .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.