أثار موقف بكين من العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا غضبا في أوروبا خاصة وأن الأخيرة اعتبرت أن الحرب الروسية لحظة حقيقة يتعين على الدول إظهار مواقفها وترجمة سياساتها المعلنة إلى أفعال، ما دفع البعض للتساؤل عما إذا كانت العلاقات الاستراتيجية بين بروكسلوبكين تتجه نحو لحظة فاصلة لا رجعة فيها؟. وذكرت دورية "ذا ديبلومات"، المتخصصة في الشؤون الآسيوية، أن الهجوم الروسي على أوكرانيا أرسل موجات من القلق عبر القارة الأوروبية، ولإحباط هذا العمل العسكري على أعتاب الاتحاد الأوروبي، تبنت بروكسل، جنبا إلى جنب مع حلفائها، وبصورة سريعة للغاية سبع حزم من العقوبات ضد روسيا، وفي حين أن هذا التضامن غير المسبوق عبر المحيط الأطلسي جدير بالثناء، فإن الحقيقة القاسية هي أن التحالف القوي بين الديمقراطيات الغربية لا يكفي ببساطة لتعطيل آلة الحرب في الكرملين. وأشارت الدورية إلى أن الصين، باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم وواحدة من أقرب الحلفاء السياسيين لروسيا، ربما تكون الجزء الأكثر أهمية في المعادلة الخاصة بفرض طوق سياسي على روسيا. فمنذ بداية الحرب، كانت بكين مترددة في استخدام مصطلح "الغزو" (حيث استخدمت بدلا منه مصطلح "قضية" أو "أزمة")، إلى جانب أنها لم تدين روسيا أو حتى تشارك في معاقبتها، بل إن وزير الخارجية الصيني وانج يي ألقى باللوم مرارا وتكرارا على توسيع حلف شمال الأطلسي (ناتو) باعتباره السبب الجذري لما وصفها ب "المأساة"، وندد بالعقوبات الغربية ضد روسيا واعتبر أنها "تزيد من اشتعال النيران". ولفتت الدورية إلى أنه قبل ثلاثة أسابيع فقط من الهجوم الروسي، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينج والرئيس الروسي فلاديمير بوتين "صداقة بلا حدود"، معتبرة أنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت موسكو قد خدعت بكين لتقديم مثل هذا الالتزام المكلف سياسيا، ولكن بعض المراقبين ذهبوا في تفسير ذلك إلى أن بكين اتخذت موقفا محايدا حيال الحرب الروسية. بلا شك، كانت بروكسل غاضبة بشأن ما وصف ب "حياد بكين" تجاه مثل هذا الانتهاك الجسيم لسيادة دولة ما ووحدة أراضيها، والتي طالما دعت الدبلوماسية الصينية إلى قدسيتها، ففي مقالة لاذعة بعنوان "حول خيارات الصين ومسؤولياتها" كتب جوزيف بوريل رئيس السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي: "إننا نرى الحرب كلحظة حقيقة يتعين على الدول فيها إظهار مواقفها الحقيقية". وعما إذا كانت العلاقات الاستراتيجية بين بروكسلوبكين تتجه نحو لحظة فاصلة لا رجعة فيها، أوضحت "ذا ديبلومات" أنه بشكل عام، تتطور ديناميكيات العلاقة بين الصين والاتحاد الأوروبي وتتشكل من خلال المثلث الاستراتيجي الواسع بين الولاياتالمتحدةوالصين والاتحاد الأوروبي، ففي مقابل التنافس الاستراتيجي الشامل بين واشنطنوبكين، لدى كل من بروكسلوبكين أسباب وجيهة لمواصلة التواصل مع بعضهما البعض. فبالنسبة للصين، فإن التركيز الشامل لسياستها الخارجية على المدى الطويل هو كسب اليد العليا في المنافسة الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة. وتواجه بكين في المرحلة الحالية ضغوطا هائلة من واشنطن على الجبهتين السياسية والاقتصادية، فمنذ عام 2021، تحركت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بسرعة لتكثيف تطويق الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهو ما يتضح من خلال اتفاقية "أوكوس" الأمنية والقمم التي تم فيها تجميع المنافسين الإقليميين الرئيسيين للصين، سيما اليابان وأستراليا والهند تحت قيادة واشنطن. وعلى الصعيد الاقتصادي، ظلت القوتان العالميتان محاصرتين في حرب تجارية مكلفة لأكثر من خمس سنوات، فوفقا لبحث حديث لمعهد الاقتصاد الدولي، تغطي التعريفات العقابية المفروضة 66.4% من واردات الولاياتالمتحدة من الصين و58.3% من الواردات الصينية من الولاياتالمتحدة، أو ما يقرب من 425 مليار دولار من التجارة البينية الإجمالية. وإضافة لما سبق وفي رسالة تؤكد سعي واشنطن الحثيث للحد من قدرة الصين على اللحاق بالركب الاستراتيجي، أقر الكونجرس الأمريكي مؤخرا قانون "الرقائق والعلوم" بقيمة 280 مليار دولار لتعزيز هيمنة الولاياتالمتحدة في التقنيات المتقدمة، ما يفتح جبهة جديدة في الحرب التقنية بين البلدين. وفي مواجهة كل ذلك، ترى بكين أن الاتحاد الأوروبي شريك مهم له نفوذ خاص لا تتحمل الصين خسارته، ومن الواضح أن الاتحاد الأوروبي - في نظر الصين - هو السوق البديل الوحيد الذي يمكن للصين أن تحافظ فيه على الوصول إلى تقنيات مماثلة لتلك التي تقدمها الولاياتالمتحدة، وذلك لكسر هيمنة الولاياتالمتحدة على التكنولوجيا الفائقة والحفاظ على طموحها لتحقيق الريادة في تقنيات الجيل التالي. ولفتت دورية "ذا ديبلومات" إلى أنه على عكس العلاقة بين بكينوواشنطن، فإن العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي، تتم توصيفها دائما على أنها "خالية من النزاعات الجغرافية المباشرة"، ورغم أن العلاقة المثيرة للجدل بين بكينوموسكو بشأن حرب أوكرانيا تضيف تعقيدا للعلاقة بين بكينوبروكسل، إلا أن الصين تجادل بأنها "ليست طرفا مباشرا في هذه الأزمة"، وحيث إن الاتحاد الأوروبي - من جانبه - يطمح أن يكون لاعبا أكثر استقلالية في الشؤون العالمية، فإن هذا يعطي بكين قدرة على المناورة لاستغلال الأوضاع عبر الأطلسي وكسر الحصار السياسي الذي تفرضه الولاياتالمتحدة في المحيطين الهندي والهادئ. ودللت "ذا ديبلومات" على ذلك بأن الرئيس الصيني في جميع محادثاته مع القادة الأوروبيين بعد العمليات العسكرية الروسية، حث نظراءه الأوروبيين مرارا وتكرارا على "تكوين تصورهم الخاص عن الصين" و"تبني سياسة الصين المستقلة"، وهو ما يرجح أن الهدف الخفي وراء ذلك هو تشجيع الطموح الأوروبي في الابتعاد عن استراتيجية الولاياتالمتحدة تجاه الصين بدلا من محاذاتها. وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن الصين ليست شريكا عاديا، سيما وأن الاتحاد هو في الأساس كتلة تجارية تأسست وتزدهر على أساس منطق مبادئ السوق المفتوح والتكامل الاقتصادي، وبصفتها أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي في مجال السلع منذ عام 2020، تلعب الصين دورا مهما في الحفاظ على استقرار سلاسل التوريد العالمية وآفاق نمو الكتلة الأوروبية، وبالتالي، فإن "الانفصال" الاقتصادي عن الصين، الذي يدعو إليه سياسيون أمريكيون، يتعارض مع غريزة البقاء لدى الاتحاد الأوروبي وسيجبر حتما الاتحاد على إعادة النظر بجدية في نموذج النمو الخاص به، بل وحتى إعادة بنائه، وتعزيز توجهه نحو التعددية. جدير بالذكر أن الفجوات بين استراتيجيات الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة تجاه الصين أعمق من مجرد حسابات اقتصادية، حيث إنها متجذرة في التصورات المختلفة للنظام العالمي، فبلا شك، تشترك بروكسلوواشنطن في نفس المفاهيم الليبرالية المتعلقة بدعم النظام الدولي القائم على القواعد ومواجهة التحديات في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان والممارسات الاقتصادية غير العادلة، ولكن ما لا تشاركه بروكسل في استراتيجية واشنطن تجاه الصين هو المفهوم الكلاسيكي ل "الاستراتيجية الكبرى المتعلقة بالسلطة والهيمنة". ويتجلى الاختلاف بين الجانبين - إن صح توصيفه هكذا - في تصريح الرئيس الأمريكي بأن "الصين لديها هدف عام يتمثل في أن تصبح...أقوى دولة في العالم ... ولن يحدث هذا في عهدي"، في حين جادلت المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل في عام 2020 بأن "النجاح الاقتصادي للصين يعود لأن لديها قدرات، يجب أن نقبل المنافسة العادلة"، إذا، بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن النظام الدولي القائم على القواعد هو الهدف النهائي في حد ذاته ولا يجب أن يكون حارسا للهيمنة. وترى "ذا ديبلومات" أن المنطق المتشابك للمعايير الليبرالية والسياسة الواقعية المتضمنة في استراتيجية الولاياتالمتحدة تجاه الصين يجعل بروكسل تشك باستمرار في أن واشنطن قد تُدرج أجندتها المهيمنة تحت خطاب الدفاع عن الديمقراطية الليبرالية، وإن السيناريو الأسوأ هو أن يصل الاتحاد الأوروبي إلى قناعة أنه مجرد أداة مفيدة للولايات المتحدة لتحقيق ميزة تكتيكية على حساب الصين، ويجب هنا عدم تجاهل الذكريات المريرة للأحادية الأمريكية تحت إدارة "دونالد ترمب" رغم حديث البعض أن بايدن أصلح الخلاف عبر الأطلسي إلى حد كبير. وستظل فرنسا - العنصر الاستراتيجي المؤثر في أوروبا - متيقظة تجاه السياسات الأمريكية ذات الصلة، سيما وأنها انتقدت إدارة بايدن ووصفتها بأنها "طعنت [فرنسا] في الظهر" بإفشالها صفقة شراء دفاعية بين فرنسا وأستراليا لصالح عرضها الخاص بالغواصات النووية. واتساقا مع ما سبق، فإن زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي المثيرة للجدل إلى تايوان أدت إلى تعميق شكوك أوروبا في أن تحرك الولاياتالمتحدة تجاه بكين قد يصرف انتباه الولاياتالمتحدة عن أوكرانيا ويدفع بكين أكثر نحو موسكو، وهو ما من شأنه أن يعقد الوضع الأمني في أوروبا، وبناء على ذلك، لا يزال الاتحاد الأوروبي يرى قيمة في وجود علاقة بناءة مع الصين. وختاما، لا شك أن الحرب الروسية في أوكرانيا والمنافسة بين الولاياتالمتحدةوالصين تضع الاتحاد الأوروبي في وضع يجد نفسه مضطرا للعب بين الجانبين، وسيعتمد مصير العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف على مدى استعداد بكين لتلبية تطلعات الاتحاد الأوروبي سيما فيما يتعلق بالشكاوى القديمة بشأن الوصول غير المتوازن إلى الأسواق والممارسات الاقتصادية غير السوقية.