قرأنا في كتب التاريخ ما عُرف بعصور الاضمحلال والتردي التي شهدتها مصر عبر تاريخها الطويل. ولكن المؤكد أن كل من يحيا على أرضها الآن لم يعرف ولم يعايش عمليا من قبل معنى تلك المصطلحات، إلا من خلال بعض المظاهر التي كانت تشير إليها بين عصر وآخر من الحقب الست الأخيرة التي عاشها البعض. ولكن لم تكن تلك العصور شاخصة متحققة على أرض الواقع كما ذكرتها كتب التاريخ في بعض العصور الفرعونية، ومن بعدها بعض عصور التردي بعد تفكك دولة الخلافة العباسية، وما تعاقب على مصر بعد ذلك من دول وحكام وأسر وجماعات وعصابات رفعوا جميعا رايات وشعارات دينية ليكتسبوا بها شرعية الاحتلال، وفي حقيقتهم كانوا مجرد قراصنة ومستعمرين، نهبوا البلاد واستعبدوا العباد. فقد عرف المصريون كل صنوف الحكم والحكام، من عرب وفرس وأكراد وأمازيغ وشيشان وآسيوين وإغريق ورومان، بل وليبيين، وربما غيرهم. وجميعهم رصدهم التاريخ وقيّم حركتهم ونجاحهم وفشلهم عبر سنوات حكمهم، فكانت بين التميز والتفوق والفشل والتردي والفساد والاستبداد، وبعضها وصِف بالاضمحلال، وهي التي حدد حقبها بعض المؤرخين بثلاث عصور للاضمحلال في مصر، كان أولها في العصر الفرعوني من الأسرة السابعة إلى العاشرة، ثم عصر الاضمحلال الثاني مع الأسرة الثالثة عشرة وحتى السابعة عشرة والتي تخللها ما عرف بعصر الهكسوس، ثم الاضمحلال الثالث وكان مع الأسرة السابعة والعشرين، الفارسية الأصل بقيادة "قمبيز"، وهو الذي يقول كثير من المؤرخين أنه مستمر إلى الآن رغم بعض عصور النهضة التي تخللتها. وفي عصور الاضمحلال المذكورة عبر التاريخ كانت هناك سمات مشتركة بينها، مثل انقسام الدولة المصرية وانهيارها عسكريا واقتصاديا، بسبب حكام فاشلين أو متآمرين، انشغلوا بالصراعات السياسية مع خصومهم، وانحازوا لجماعاتهم على حساب الدولة، فانهارت وانقسمت، أو احتلت من قبل قوى أخرى. أما من عايش الحقب الأخيرة من تاريخ مصر فربما لم يعرف كيف كان هذا الاضمحلال، ولكن عرف الفساد وعرف الاستبداد، سواء قبل ثورة يوليو أو بعدها، أما اليوم، فقد أرادت الأحداث والحوادث أن تُعرِّف المصريين معنى هذه الكلمة، وهي التي قرأوا عنها فقط ولم يعايشوها، فهاهم الآن يرون شواهدها وهي تتشكل أمامهم، ليتحول كتاب التاريخ في مصر إلى درس عملي يعيش الناس فصوله، ويشاركون في كتابته، لتشهد عليهم الأجيال القادمة هل باعوا الوطن؟ أم أنهم لم يستسلموا لأعداء الحاضر والماضي، ولم يسلّموا بلادهم لتيارات أو جماعات معادية، مهما كانت شعاراتها، ومهما ادعت من انتماءات. فمصر الآن بدأت عصر الاضمحلال الرابع، وهو ما تؤكده أحوال الناس والدولة والمجتمع، والذي عاشت مصر مثله كثيرا عبر التاريخ، ولكنه زال، كاسحا معه كافة عناصر الفشل. بينما تتوقف فترة التردي هذه على مدى مقاومة المصريين لها، ومدى رغبتهم في التعافي من مسببات المرض.. فمصر التي أهلكت جميع أعدائها في الداخل والخارج، قادرة الآن أيضا بشبابها الثائر على التخلص من أعداء الثورة وأعداء المستقبل، الذين يكبلون حركتها للسيطرة عليها وسلبها بالكامل. عرف المصريون عصور الفساد والطبقية وسطوة المال قبل ثورة يوليو 1952، وعرفوا كيف يقاومون الاحتلال وأعوانه.. وعرفوا الفساد أيضا بعد الثورة في عهد مبارك والسادات، وعرفوا الاستبداد في عهد عبدالناصر، ولكنهم رغم هذا الاستبداد مازالوا إلى اليوم يحملون للرجل احتراما خاصا لطهارة يده، ويقينهم من وطنيته وانتمائه لهذا الوطن والشعب، وهو ما جعلهم يتسامحون في أخطائه، وجعل الآخرين من أعداء الوطنية يعبدون كراهيته إلى يومنا هذا، ويتقربون بها إلى سادتهم، ليس لأنه حجّمهم واعتقلهم، فهم يعرفون جيدا لماذا فعل ذلك، ولماذا فعل الملك فاروق من قبله، وفعل السادات ومبارك من بعده، لأنهم يعرفون ما اقترفت أيديهم تجاه هذا الوطن متسترين بشعارات كاذبة. أما كراهية عبدالناصر فقد فاقت كراهيتهم لسواه، حيث وضعهم الرجل _حتى بعد وفاته الآن بأربعين عاما_ أمام حقيقة عجزوا عن تغييرها أو تزييفها في وجدان المصريين، وهي أنهم فشلوا بقناع الدين أن يخدعوا الناس ليحبوهم أو يثقوا فيهم، بينما نجح عبدالناصر رغم استبداده في أن يعشقه الناس لصدق وطنيته. ولم يتمكنوا بكل شعاراتهم الكاذبة باسم الدين أن يخدعوا الناس فينالوا عُشْر ما ناله الرجل من حب الناس واحترامهم، وهو ما يؤكد نقاء الحاسة الوطنية التي حبا الله بها المصريين، فأصبحوا بفطرتهم يعرفون من المخلص لهم ولوطنهم، ومن المتآمر عليهم الذي يسعي فقط لاستقطابهم لتنفيذ مخططه المعادي. تنزلق مصر الآن في مستنقع التردي، بينما لا يعبأ النظام بها، مكتفيا بحالة الإنكار التي تجتاح خطابه، وكأن هذا الإنكار سيعمي الناس، الذين تنهار أحوالهم يوما بعد يوم، عن رؤية واقعهم المتردي، وعن معايشتهم للمعاناة. فالناس باتوا لا يتوقعون خلاصا أو حلا من النظام القائم، حيث لم يبدر منه حتى الآن غير نفي لوجود المشاكل، وليس الشروع في حلها. المزيد من أعمدة جمال دربك