التاريخ أكبر من أن يصنعه «فرد» واحد، أو حتى حفنة من الأفراد، ومع ذلك فإن هناك أفرادًا استطاعوا أن يتركوا بصماتهم على حركة التاريخ، وأن يؤثروا على مسيرته.. بالسلب أو الإيجاب، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد أو تحصى فى سائر قارات العالم. بيد أن هذا التأثير يبدو أنه يكتسب وزنًا نسبيًا أكبر فى مصر، وما كان يسمى فى الأدبيات القديمة ب«بلدان الشرق»، عمومًا، حيث وصل تعاظم دور الفرد فيها- فى كثير من الأحيان- إلى درجة «العقيدة»، أو ما يسمى ب«عبادة الفرد». وغنى عن البيان أنه ليست لدى شعوب الشرق «جينات وراثية» مسئولة عن ذلك، تجبر الناس على أن يكونوا على دين ملوكهم، أو حتى أن يقدسوا هؤلاء الملوك أو غيرهم من الأفراد، وإنما للمسألة أسباب موضوعية متعددة، ربما من أهمها غياب الملكية الخاصة للأرض فى معظم تاريخ بلدان الشرق، وهذا معناه أن من يجلس على عرش مصر- مثلاً- يملك الأرض وما عليها ومن عليها- وهو بهذا النحو ليس مجرد حاكم، وإنما هو أيضا «إله» أو «نصف إله» إذا تواضع. فى هذا السياق.. يوجد فى تاريخ مصر تحديدًا عدد من الأفراد الذين لعبوا دورًا مؤثرًا فى تشكيل مسار هذا البلد الذى عرف قيام أقدم دولة فى التاريخ، وكثير من هؤلاء الأفراد كانوا أوغادًا كبارًا- حتى بمعايير عصورهم- لكن هناك أيضا عددًا- ولو محدودًا- من الأفراد الذين تركوا بصمات قوية تجاوزت عهودهم وظلت مصابيح تنوير ومنارات إشعاع وإلهام. من هؤلاء فى تاريخ مصر الحديث قبل ثورة 23 يوليو1952 أحمد عرابى ومصطفى كامل وسعد زغلول، وبعد ثورة 23 يوليو جمال عبدالناصر. والكثيرون يرجعون هذه المكانة الاستثنائية التى يتبوأها جمال عبدالناصر إلى «الكاريزما» التى كان يتمتع بها، لدرجة أنك يمكن أن تجد شخصا على قدر غير قليل من الثقافة والفطنة يسهب لك الحديث بالساعات فى وصف سحر نظراته والقوة الغامضة التى تنطلق من عينيه، أو هالات الهيبة المصاحبة لحضوره.. وغير ذلك من سمات شخصية. والرجل كان يمتلك بلا شك كاريزما طاغية، لكن كل هذه الخصائص «الذاتية» ما كان لها أن تؤثر لولا تزامنها مع ظروف «موضوعية» ومناخ سياسى واقتصادى واجتماعى وثقافى مواتٍ للاحتفاء بهذه السجايا الشخصية وتطويرها أيضا. حتى الظروف الدولية والإقليمية ليست بعيدة عن «تعظيم» أو «تقزيم» مثل هذه الأدوار التى يمكن أن يلعبها «أفراد»- أى زعماء- فى هذا البلد أو ذاك. وعلى سبيل المثال- وفيما يتعلق بالزعيم جمال عبدالناصر- يقول لنا المفكر الأمريكى- غير الإمبريالى- نعوم تشومسكى إن «الولاياتالمتحدة رحبت بثورة 1952 فى مصر وكانت مرتاحة فى البداية، إن لم تكن راضية، عن نظام جمال عبدالناصر، لكن مع منتصف الخمسينيات تغير الموقف الأمريكى بسبب حيادية ناصر وموقفه الاستقلالى الذى جعله يضطر إلى قبول المساعدات الروسية أمام العدوان الأوروبى، وقد أقرت المخابرات الأمريكية أن الاتحاد السوفيتى كان يتخذ سياساته فى مصر كرد فعل على المواقف الغربية، وبناء على طلب من الرئيس الأمريكى وقتها- إيزنهاور- قام دالاس بإعداد مذكرة للأمن القومى بتاريخ 28 مارس 1956 صارت الأساس لمشروع «أوميجا»، الذى سعى إلى إسقاط حكم ناصر ودعم دكتاتوريات الخليج وعرقلة مشروع السد العالى وقطع المعونات عنه، وقد علق إيزنهاور على مذكرة دالاس بقوله: «إن الطموح المتنامى لناصر يعد المشكلة الأساسية، وهى مشكلة يمكن التغلب عليها عن طريق دعم قائد عربى واعد مثل الملك سعود»، وقد فضلت واشنطن دعم ابن سعود فى مواجهة ناصر بدلاً من استخدام القوة المباشرة لإسقاط ناصر كما خططت بريطانيا وفرنسا، وقد حذر دالاس من أن طموح ناصر يمكن أن يحول أوروبا الغربية إلى دول معتمدة على الشرق الأوسط ويحول دون تحقيق مشروع السيطرة.. ورغم هذا عارضت الولاياتالمتحدة العدوان الثلاثى على مصر فى أكتوبر 1956 ممانعة لاستعادة بريطانيا وفرنسا لدور قديم فى الإقليم، فضلاً عن أن واشنطن كانت ترفض توقيت ذلك الغزو.. وبعد إجبار بريطانيا وفرنسا على الانسحاب من مصر أرسل إيزنهاور برقية إلى دالاس خلال اجتماع لحلف شمال الأطلنطى «الناتو» يهدف للتأكيد على الحلفاء ألا يختلفوا فى رؤية «التأثير الشيطانى» لجمال عبدالناصر. إذن الولاياتالمتحدة كانت ترى خطورة كاريزما عبدالناصر، أو ما أسماه إيزنهاور ب«التأثير الشيطانى» للزعيم المصرى، وسعت هى وفرنسا وبريطانيا وإسرائيل- وإن يكن بسبل مختلفة- لتقويض هذه الكاريزما التى أصبحت ملهمة ليس للمصريين فقط وإنما للعرب جميعا. واللافت للنظر هنا بؤس فشل اصطناع كاريزما لقيادات بديلة لا تمتلك مقوماتها، وهذا يظهر جليا من فشل تحويل قيادات عربية محافظة إلى زعامات عربية حتى مع امتلاكها لأموال طائلة «ويبدو أن الكاريزما الفردية مرتبطة أيضا بالتاريخ والجغرافيا». لكن هذه الكاريزما ما كانت لتؤثر، أو حتى تستمر فى الإشعاع، لو أن عبدالناصر وقف ساكنًا أو آثر السلامة والمشى إلى جوار الحائط، لكنه قاوم بضراوة.. فزاد رصيده وزاد تألقه محليا وإقليميا ودولياً واكتسبت بلاده نفوذا أدبيا أكبر من حجمها الجغرافى ووزنها الاقتصادى. ولم يكن هذا الأداء على الساحة الإقليمية والدولية، بصدد القضية الوطنية، منعزلا عن معارك أخرى داخلية خاضها عبدالناصر على الصعيدين الاجتماعى والاقتصادى، فقبل مرور شهرين على قيام «الحركة المباركة» فى 23 يوليو 1952- بتعبيرات تلك الأيام- صدر قانون الإصلاح الزراعى الأول فى 9 سبتمبر 1952 بكل آثاره الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة، والتى كانت مقدمة تحول «الانقلاب العسكرى» الذى قام به 160 فردًا من الضباط الأحرار إلى «ثورة» يؤيدها الشعب ويلتف حولها فى ملحمة تحقق فيها الكثير وبخاصة تصنيع مصر وإنشاء السد العالى وتحديث المجتمع ومكافحة الفقر والحفاء.. وغير ذلك من أمور من بينها أنه لولا 23 يوليو ربما لم يكن ممكنا لشخص مثلى أن يدخل الجامعة أصلاً ناهيك على أن يكون صحفيا يكتب عن جمال عبدالناصر وينتقده. لكن المشكلة الكبرى هى أن كل هذه المنجزات الاقتصادية والاجتماعية العظمى كانت مرتبطة ب«فرد» واحد، هو جمال عبدالناصر، ولذلك فإن هذه المنجزات تبخرت كلها، أو معظمها، مع رحيله ووفاته يوم 28 سبتمبر ,1970 مثلما تعرض الصرح الشامخ الذى تم تشييده فى عصر عبدالناصر إلى الانهيار بعد هزيمة يونيه ,1967 وبالطبع كان لهذا الانهيار أسباب كثيرة ومتشابكة لكن «كعب أخيل» ونقطة الضعف الرئيسية كانت غياب الديموقراطية واستشراء الاستبداد السياسى واستقواء أجهزة الأمن والمخابرات بصورة مخيفة، وبالتالى كان المنجز الناصرى الجبار أشبه ببناء قصر شاهق على الرمال تأتى عاصفة عاتية لتجعله أثرًا بعد عين. ورغم هزيمة 1967 ورغم مرارات إرث وممارسات الاستبداد والثمن الفادح لإمبراطورية السجون والمعتقلات والتعذيب، وتأمين السياسة وقتل المشاركة الشعبية.. رغم ذلك مازال جمال عبدالناصر رمزًا ملهما للأمة، يفرض وجوده- بدون سجون أو معتقلات أو إعلام موجه- فى أوقات المحن وتطلع المصريين إلى ضوء فى نهاية النفق، فقد كان عبدالناصر ولايزال رمزًا لطهارة اليد والبعد عن التورط فى الفساد، كما كان ولايزال رمزا للذود عن كرامة الوطن والإحساس بأوجاع الفقراء والمحرومين. وحسنا فعل حمدين صباحى، أحد أبرز القيادات الناصرية والمرشح المحتمل لمنصب رئيس الجمهورية، عندما قدم نقدًا ذاتيًا للممارسات المنافية للديموقراطية وحقوق الإنسان فى الحقبة الناصرية، فهذا النقد الذاتى من شأنه الحفاظ على الجانب الإيجابى للناصرية وإبقائه ملهما للملايين. لكن السؤال هو: هل يمكن استنساخ جمال عبدالناصر؟! وهل هذا الاستتنساخ مطلوب أصلاً؟! المطلوب استلهام إيجابيات عبدالناصر، وتعلم الدروس من إخفاقاته، مع ملاحظة الفروق والاختلافات الكبيرة بين عصر عبدالناصر، وعصر ثورة 25 يناير، فثورة 23 يوليو تنتمى إلى عصر الثورة الصناعية وثورة 25 يناير تنتمى إلى عصر ثورة المعلومات، ولكل من الثورتين أحكامها ومتطلباتها، فثورة الصناعة أنجبت المصنع بخطوط إنتاجه وتقسيم عمله وأسواره وعلاقات إنتاجه التى أفرزت بدورها الحزب السياسى والنقابة.. والزعيم، أما ثورة المعلومات فهى تنجب علاقات مختلفة جدًا.. يهمنا منها هنا تراجع دور الزعيم- الفرد، بل حتى دور الحزب السياسى، بالتوازى مع تراجع «الديموقراطية النيابية» لصالح «الديموقراطية الرقمية» المباشرة. لكن حتى هذا التحول التاريخى من ثورة الصناعة إلى ثورة المعلومات والانتقال من دولة الاستبداد إلى دولة الحق والقانون، يحتاج إلى قيادات مبدعة تستلهم تاريخنا، وفى نفس الوقت تلهم الأمة وتلهب خيالها وتضئ الطريق أمامها بخطاب عصرى. وجمال عبدالناصر هو بلا شك أحد الزعامات الملهمة «بكسر الهاء» فى إطار شروط الألفية الثالثة التى تختلف جذريا عن خمسينيات وستينيات القرن الماضى. الأمر الذى يجعلنا لا نتطلع إلى الوراء، ناهيك إلى القبور، لاستنساخ زعامات كانت بنت عصرها، ولا نتطلع إلى زعيم فرد نسير وراءه أصلا، بل نتطلع إلى قيادات طبيعية تفرزها الثورة ونسير معها جنبًا إلى جنب. وأستطيع أن أرى من الآن ملامح هذه القيادات الطبيعية التى تجمع بين قسمات جمال عبدالناصر وأحمد عرابى وسعد زغلول.. ونلسون مانديلا.. ليس فى فرد واحد.. وإنما فى مئات وآلاف المصريين الذين يجب أن يقودوا العمل الوطنى وبناء مصر الجديدة فى الريف والحضر.