من لطف الله تعالى بعباده أن جعل التكاليف التعبدية مقيدة بالوسع والطاقة، ممتزجة بها امتزاج الماء بالعود الأخضر، فلا تنفك عن اليُسر في الأداء، مع بقاء كمال أجرها، وهذا هو منهج هذه الشريعة الغراء في جميع تشريعاتها. والحج – مع كونه خامس أركان الإسلام- فإنه قائم على هذا الأساس الواسع، لأن مقتضى كونه ركنًا لا يُعفى أحد من المسلمين من فعله؛ لأن الركن هو ما لا يتم الشيء إلا به، إلا أن الركنية فيه تحصل بالإيمان، أما الأداء فشرطه الاستطاعة، ولولا ذلك لكانت الأمة الإسلامية في حرج عظيم؛ من حيث سيكون جُل الأمة آثمًا لعدم إمكانية الأداء، فوسَّع الله تعالى على عباده فجعل آداء الحجّ في العمر مرة، وزاد أن يكون مشروطًا بالاستطاعة، والشرط هو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، أي: إذا عُدم الشرط، وهو الاستطاعة، عدم الوجوب، ووجود الاستطاعة لا يلزم منه الوجوب فقد يكون غير مكلف لصغر، أو جنون. ومن الاستطاعة المشروطة لوجوب الحج: الحصول على التصاريح اللازمة التي لا يُمكَّن المكلف من أداء النسك إلا بها، ويشمل ذلك وثائق السفر الرسمية التي تمنحها الدولة لمواطنيها للسماح لهم بالسفر لأداء المناسك، والتطعيمات اللازمة، ولا يعفيه من ذلك قدرته على التهرب أو التحايل على الأنظمة، فإن هذه مخالفة لولاة الأمور الذين وضعوا تلك اللوائح، والقوانين لتنظيم هذه الفريضة لمصلحة الحجاج في جميع بقاع المعمورة بين المسلمين. لذلك سنّت الحكومات الإسلامية مجموعة من القوانين الغرض منها تنظيم عملية الحج؛ مراعاةً لحفظ الأمن، والصحة العامة، وتنظيم أعداد الحجيج كل عام، وما يترتب على ذلك من مفاسد قد تؤدي في بعض الأوقات إلى وفاة بعض الحجاج. ومما ألمّ بالأمة من تفشي وباء كورونا، أصدرت السلطات السعودية قرارًا بإقامة الحج هذا العام "بأعداد محدودة" للراغبين من شتى الجنسيات من المتواجدين بالأراضي المقدسة، وذلك بسبب استمرار تفشي الفيروس في أنحاء العالم، وجاء إعلان القرار في بيان أصدرته وزارة الحج والعمرة في السعودية بهذا الصدد، وأشار البيان إلى "خطورة تفشي العدوى في التجمعات والحشود البشرية، والتنقلات بين دول العالم، وازدياد معدلات الإصابات عالميا". وبررت الوزارة القرار بالحرص على "إقامة الشعيرة بشكل آمن وصحيّ، وأن هذا القرار جاء بناءً على استمرار مخاطر هذه الجائحة، وعدم توفر اللقاح المضاد لها، اللازم لعلاج للمصابين بالعدوى حول العالم، وللحفاظ على الأمن الصحي العالمي، خاصةً مع ارتفاع معدل الإصابات في معظم الدول وفق التقارير الصادرة من الهيئات، ومراكز الأبحاث الصحية العالمية، ولخطورة تفشي العدوى والإصابة في التجمعات البشرية التي يصعب توفير التباعد الآمن بين أفرادها. ولكن الأمر قد يؤدي إلى إثارة حفيظة المتشدّدين الذين يَدْعون لاستمرار أداء الشعيرة وزيارة الأماكن المقدسة، وعدم توقفها رغم المخاطر الصحية، ويصرون على مخالفة هذه التعليمات التي تصبّ في صالحهم وفي صالح الجميع، ويقومون بالتحايل على الشرع والقانون من أجل أداء فريضة الحج، ضاربين بكل هذه التحذيرات عرض الحائط معتبرين التحايل على القوانين المنظمة لفريضة الحج، واستغلال بعض المواقف والثغرات توفيق من الله لأداء هذه الفريضة. وهنا لا ينبغي التعامل مع هذه المسألة بهذه الطريقة، فهؤلاء المستغلون يعملون علي زيادة الازدحام في هذا الموسم الاستثنائي؛ حيث لا تدرجهم السلطات السعودية في قوائمها، وتفاجئ أثناء أداء المناسك بزيادة الحجاج عن الأعداد المتوقعة، وبالتالي فإنه قد اقترف كذبا، واحتال بالغش على ما ليس له، فالتحايل بهذه الطريقة حرام، وإن كان لا يبطل الحج من ناحية الطريقة، وإسقاط حجة الإسلام، أما قبوله فمردّه إلى الله. والتحايل بهذه الطريقة للوصول إلى المشاعر المقدسة قد يؤدي إلى ارتكاب مخالفات شرعية مثل: خلع الإحرام، ولبس المخيط، حتى يتمكنوا من تجاوز نقاط التفتيش، ومرتكبين مخالفة شرعية أخرى من حيث عدم طاعة ولي الأمر التي أوجبها الله سبحانه وتعالى علينا جميعًا، بقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)([1]). كما أن المتحايل يقوم بتعريض نفسه لخطر المعاقبة على المخالفة، قال تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)([2]) وهو أمر محظور شرعًا، يجعل المرء آثمًا غير مبرور الحج، وإن صح أداؤه شرعًا. والتحايل يؤدي إلى أضرار متعددة، وإلى انتشار الفوضى والمرض، والإسلام يُوجب الكف عن الضرر بقاعدتيه:" لا ضرر ولا ضرار"، وقاعدة: "ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح" وهو مقصد معتبر من مقاصد الشريعة. وفي هذا الإطار فقد فرضت الجهات الأمنية السعودية قصر الحج على المقيمين داخل المملكة، وأكدت المملكة أن الحج قاصر أيضًا على من هم دون ال65 عامًا، ومنع كافة من يعانون أمراض مزمنة، بالإضافة إلى فحص طبي سابق قبل وصول المشاعر المقدسة، وفرض عزل منزلي لاحق لأداء المناسك، بخلاف متابعة الحجيج أثناء أداء الفريضة، ومعاقبة كل من يخالف تعليمات منع الدخول إلى المشاعر المقدسة في كل من: «منى، مزدلفة، عرفات» بلا تصريح بدءً من تاريخ الأحد 28 من ذي القعدة (19يوليو) حتى نهاية الأحد 12من ذي الحجة (2 أغسطس)، بغرامة مالية قدرها عشرة آلاف ريال وفي حال تكرار المخالفة تضاعف العقوبة. ولاشك أن تنظيم الحج، وتحديد النسب المطلوبة، هي من المصالح المرسلة التي يجب مراعاتها، لذلك كان تنظيم القوانين، وسن التشريعات المنظمة للحج هذا العام تأخذ حكم الشروط الشرعية؛ لأن البعض يقول: إن منع الناس من الحج بدون تصريح من منع شعائر الله، وعدم تعظيمها وهو مخالف لقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}([3]) فالتنظيم والترتيب لمصلحة الجميع، واتباع الأنظمة من شرع الله ما دامت لا تخالفه ولا تصد عنه. فصار تحقيق الشروط واللوائح التي وضعتها الأنظمة القانونية من الاستطاعة التي علّق عليها الله تبارك وتعالى وجوب الحج، وعلى كل مريد للحج أن يعرضها على نفسه، فإن كانت متحققة فيه بادر للحج ، وإلا فهو في عفو الله وعافيته حتى يستطيع. والله أعلم.
[1] - سورة التغابن: الآية رقم12 . [2] - سورة البقرة: الآية رقم 195. [3] - سورة الحج: الآية رقم 32.