أن يكون المواطن وحياته وشئونه رهن وصاية مواطن آخر في القرن الواحد والعشرين، أمر غير قابل للطرح والمداولة حتي لو عشنا زمناً رديئاً يطل علينا فيه من يقول أن الديمقراطية كفر .. يقولها بتباتة في حضرة شعب له حضارة هي الأعظم في تاريخ الشعوب، وبعد أن قدم علي مذابح الحرية ما يكفي وأكثر لينعم بحياة ديمقراطية يستحقها، ولم تعرف الإنسانية ديمقراطية كافرة إلا إذا كان من يكفرها يقصد بها ديمقراطية " الذمية " التي هي بطعم العلقم! "إن لبنان هو وطننا، وسيبقي وطناً للمسيحيين.. نريد أن نمارس مسيحيتنا، ونحتفل بالطقوس والتقاليد، ونمارس إيماننا وعقيدتنا كلما رغبنا... من الآن فصاعداً، نحن نرفض أن نعيش في ذمية " .. تلك عبارة من خطاب بشير الجميل رئيس الجمهورية اللبناني السابق في 14 سبتمبر 1982، في إشارة إلي المحاولات التي كان يقوم بها القادة المسلمون لإخضاع الأقلية المسيحية اللبنانية الكبيرة، ولعلها المرة الأولي لتداول هذا التعريف علي الساحة العربية سياسيا ً. في موسوعاتنا المرجعية يعرفون (الذمية) أنها لفظ محدث ظهر لأول مرة في اللغة الفرنسية dhimmitude لوصف كل تصرف يعني الخضوع والاستسلام والمهادنة تجاه المطالب الإسلامية..المصطلح مشتق من "أهل الذمة " وهم المسيحيون واليهود في الدول التي دخلها المسلمون وأخضعوها لشروط معينة بحسب الشريعة الاسلامية. المصطلح له العديد من الاستخدامات فيمكن أن يقصد به العصور السابقة (تاريخ) أو الوقت الحاضر أو كلاهما، وقد يشمل نظام الذمية برمته، أو يقتصر علي الذميين فقط أو حتي خارج نطاق تطبيق الذمية الفعلي. "الذمية" وبمعناها البسيط المعروف لدي البسطاء هو أن ثمة مواطن ما قد بات في ذمة مواطن آخر أو في حمايته، أي أن يقبل الأقباط صاغرين أن يكونوا في حماية شركاء الوطن في مصر، حتي أن جاري " مرقس سميكة " الموظف الحكومي الكبير العائد لتوه من ميدان التحرير قابلني أمام مدخل البيت غاضباً " خليكم اكتب أنت وغيرك يا فلان وغيبونا عن الواقع لحد ما وصلنا لحالة استقطاب دينية رهيبة للناخبين في أول انتخابات يجتازها شعب عظيم في بلد كبيرة زي بلدنا بعد ثورة عظيمة .." .. وواصل جاري غاضباً " من بكره علي أنا وكل الأقباط بعد الصعود المذهل للتيارات الدينية دي لشغل معظم كراسي البرلمان، وبعد كده كراسي الحكم أن نقبل أنا وانت وكل المسيحيين بمواطنة من الدرجة المتدنية لأننا يا أهل التنظير في نظرهم أهل ذمة ، وليس لنا حق الرفض بعد إقرار تشريعات مجلس الإمارة الجديد".. "الذمية" أو "عهد الذمة" أو "عقد الذمة"، هي بمثابة معاهدة يلتزم فيها المسلمون بحماية اليهود والمسيحيين الذين يعيشون معهم في الدولة الإسلامية مقابل دفع نوع من الضرائب "الجزية"، وللذمية أحكامها التي تتناول العديد من القضايا، منها ما يتعلق بموضوع الحماية الحربية وتحديد من يقوم بها في الدولة الإسلامية. والقاعدة العامة أن الخدمة العسكرية أو الجندية هي واجب علي المسلمين فقط، وعليهم تقع مسئولية الدفاع عن الدولة. أما الذمي (المسيحي أو اليهودي) فطبقًا للشرع لا يحق له الاشتراك في الخدمة العسكرية (الجيش) أو الدفاع عن الأمن (الشرطة)، إلا من خلال ما يدفعه من ضرائب مثل الجزية والخراج. وقد أختلف مع جاري عم مرقس فيما قاله، ولكن كيف أنسي هتافات صارخة محبطة يرددها متظاهرون "نصون العهد ونرعي الذمة للأقباط أبناء الأمة "..إنها الذمية التي يدعو إليها ويريد أن يعيدنا إليها أحزاب دينية يأتي في مقدمتها حزبا "الحرية والعدالة" و"النور" بعد الظهور المباغت في الساحة ، وبخرق واضح وطائفي لبنود الدستور االمصري التي تحظر الموافقة علي إنشاء أحزاب دينية، وكانت الموافقة عبر حيلة مسمي تلفيقي "أحزاب بمرجعية دينية". وفي رد فعل سريع وطائفي أيضاً تنادي الأقباط فاصطفوا في تجمعات تشكل وتنضم لأحزاب ليكون توجهاتها أيضاً دينية ، وكأننا أسقطنا نظاماً كان يكتفي باللعب بإثارة النعرات الطائفية لتحقيق مصالحه ، إلي إنشاء نظام مُعتمد وقانوني لتقسيم البلاد والعباد علي أساس الهوية الدينية .. وإذا كان جاري العائد لتوه من التحرير غاضباً من نتائج الانتخابات ، فهل لنا أن نسأل أهل التحرير أين كنتم عندما تم فرض إقامة أحزاب دينية في فترة انتقالية، وفي غياب مجالس نيابية وحاكم للبلاد ودستور، وفي وجود حكومات " خيال المآتة" ؟! وفي الحقيقة أتعجب لبعض ردود فعل الشارع المصري وأهل الفكر والرأي في بلادي بإعلانهم الدهشة والمفاجأة لحصاد نتائج انتخابات المرحلتين الأولي والثانية ، وهذا الاكتساح الهائل لجماعة الإخوان والتيار السلفي، فالمقدمات والمعطيات كانت لابد تذهب بنا إلي تلك النتائج ، والقراءة الواقعية للمناخ العام السائد لا يسمح بأي نتائج مغايرة، والحالة التي آلت لها أحوال البلاد والعباد من تراجع اقتصادي وقيمي وفرت فرصاً طبيعية لتحقيق تلك النتائج وبسهولة ومنطقية ..وفي إيجاز لتلك المقدمات يمكننا التوقف عند أبرز الأمور التي ساهمت في نجاح الحملات الانتخابية لجماعات الإسلام السياسي في تحقيق أهدافها: التخطيط العلمي المحكم الملتزم بجداول زمنية ، وإدارة منضبطة ( يتلاحظ التخلي عن ميدان التحريراستثماراً لانشغال المنافس في الميدان ، ثم التحديد الدقيق للعناصرالأكثر استهدافاً من المعدمين وسكان العشوائيات ( فقر وجهل ومرض) ، فكان إغداق الأموال والمساعدات وتحسين الأحوال ، والأيادي الحانية المشفوعة بآيات وتعاليم الدين والإيحاء بأن في حزبهم الحل الواحد والأكيد والموفر للاستقرار والأمان وأن من لا شيخ له فالشيطان شيخه .. في لقاء يتم تداوله الكترونياً نتابع كهل فقير مريض ، واقفاً أمام لجنة انتخابات يقول لكاميرا برنامج شهير" أنا مش إخواني لكنني سأنتخبهم لأنهم ناس مُنظمة ووشوشهم سمحة ونعمة الإسلام باينة على جبينهم لا مؤاخذة ، وآخر يقول أنا جاري قاللي انتخب الكتلة لكن لما سألت عليها جوه اللجنة قالوا لي إنها خلصت واللي موجود الميزان بس " .. لقد نجح المرشح بمرجعية دينية في إطلاق بالونات الاختبار عبر الإدلاء بتصريحات استفزازية ، ثم نفيها عند استشعار غضب الرأي العام ، ومن ثم النجاح في شغل الساحة الإعلامية وغياب من ينافسونهم عن ساحة العمل الجاد في الشارع والتواصل مع الناس في دوائرهم.. لقد نجحت جماعات التيارات الدينية في دعم قناعات الجماهير باعتبار الهوية الدينية هي طوق نجاة لهم ، وأن مشروعهم هو الآمن لشعب يفتقد لمشروع قومي ل مواجهة تفشي الفساد والتراجع القيمي والاقتصادي والإنتاجي عبر تفعيل شرع الله ، استثماراً لفطرة بشر متدين ، فكان اللجوء للخطاب الديني الملتزم بمنهجية لا تخلو من انتهازية لحال بلد يعيش حالة من السيولة والتفكك ، في غياب برامج وطنية جادة لكل الأحزاب والتحالفات ، فكان اللعب علي أمر الهوية الدينية متوقعاً ، ويبقى السؤال هل وصل بنا الحال لأن نعتبر البرلمان القادم " برلمان بمرجعية دينية " بعد أن وافقنا على استفتاءات وانتخابات بمرجعية دينية ، ووصولاً لحكومة ووطن بمرجعية دينية؟