مَرَّ شهر رمضان شهر النفحات، شهر الطاعة والعبادات، وحافظ المسلمون واستقاموا على الطاعة والعبادة في هذا الشهر الفضيل واجتهدوا حتي ينالوا الثواب الجزيل من رب العالمين، وبانتهاء رمضان يكسل كثير من الناس عن الاجتهاد في الطاعة والعبادة، ويتناسون مكارم الأخلاق، غافلين أن الاستقامة على الطاعة والخلق أمر رباني وفرضية إلهية في رمضان وفي غير رمضان، وليكن رمضان بداية الاستقامة عند غير المستقيم، وإعادة وتجديد لنشاط المستقيم . فالاستقامة كما عرفها العلماء هي : لزوم المنهج القويم والمداومة عليه، وقد أمر الله تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلك ومن معه بالاستقامة على الطاعة فقال تعالي: " فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" ، وقال تعالى : " فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ" ، وقال تعالى : " قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ" . وللاستقامة فوائد كثيرة منها ما يلي: 1- المستقيم آمن في الدنيا والآخرة ، وفي معية الملائكة ، ومبشر بجنة الرحمن، قال تعالى مبشرا المستقيم : "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ " . 2- الاستقامة سبب لتوسيع الأرزاق وعدمها سبب للحرمان قال تعالي بعد أن بين طوائف الجن من مسلم وغير مسلم، قال عن غير المسلمين منهم : " وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا " أي: لو ثبتوا على الدين والعبادة والطاعة لأنعمنا عليهم ولوسعنا عليهم أرزاقهم ومعيشتهم . 3- الاستقامة على الطاعة والعبادة دليل على كمال الإيمان ففي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام ابن ماجة في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" . 4- الاستقامة على حسن الخلق يوصل الإنسان إلى درجة الصوام القوام – أي كثير الصيام كثير القيام بالليل- ، ففي الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن المسلم المسدد – أي المستقيم – ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله بحسن الخلق " . لذا كانت الاستقامة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، فقد روى الحاكم بسند صحيح أن سيدنا معاذ أراد السفر فقال : يا رسول الله أوصني، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: اعبد الله ولا تشرك به شيئا، قال : يا رسول الله زدني ، قال: إذا أسأت فأحسن ، قال: يا رسول الله زدني، قال: استقم ولتحسن خلقك" . بل لخص النبي صلى الله عليه وسلم أمر الدين والإسلام في الاستقامة ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه أن سيدنا سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت يا رسول الله : قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ، قال : قل آمنت بالله ثم استقم " . ولكن يرد هنا سؤال هو : ما الطريق الأمثل للاستقامة ؟ أو كيف نستقيم؟ ، وللجواب عن هذا السؤال يجب أن يعلم كل فرد منا أن الاستقامة تبدأ باستقامة القلب على الإخلاص لله تعالى؛ لذا نجد سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يفسر قوله تعالى " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا" بأنها استقامة القلوب، فيقول رضي الله عنه: " ثُمَّ اسْتَقَامُوا" أي لم يلتفتوا إلي غير الله، فمتى استقام قلب الواحد منا على طاعة الله وإخلاص الأمر له سبحانه استقام الجسد كله، وإذا اعوج وفسد قلب الواحد منا اعوج وفسد سائر الجسد ، فالقلب هو الملك وبقية الأعضاء جنوده، قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه : " إلا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب" . ولما كان اللسان هو المعبر عن ما في القلب كانت استقامته مهمة فهو أخطر عضو بعد القلب ، وقد ورد حديثا يحكي لنا مشهدا يوميا يحدث كل صباح بين اللسان وسائر الأعضاء، يبين لنا مدى أهمية استقامة اللسان وتأثيره على بقية الأعضاء ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في سنن الترمذي بسند حسن : " إذا أصبح ابن آدم فإن أعضاءه تُكَفِّرُ اللسان – أي تذل له وتخضع لأمره- تقول : اتق الله فينا فإنما نحن بك ، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا" . فإذا استقام القلب واللسان استقامة بقية الأعضاء . فليحرص كل واحد منا على التمسك بالدين والمحافظة عليه والاستقامة عليه طوال العام في رمضان وبعد رمضان، فنحن مأمورون بالاستقامة حتى الممات قال تعالى : " وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" .