حان الوقت ، العمر أصبح خلفى ولم يعد هناك ما أخشاه ، أولادى تزوجوا بل وأنجبوا أيضاً، استقلوا بحياتهم ونجحوا إلى الحد الذى يرضينى تماماً ، كانوا نقطة ضعفى وهم صغار ، خوفى الدائم عليهم حجمنى وألجم لسانى وقلمى ، فلم أتكلم ولم أكتب إلا فى حدود المسموح به ، كنت أبتعد عن أى تنظيم أو حتى نشاط مهما كان بسيطاً إذا شعرت فيه بأى تجرؤ أو مناوءة للسلطة ، والحقيقة أننى لم أكن مغالياً فى ذلك فدائماً ما كان يصدق حدسى ، فهؤلاء الزملاء الذين تكلموا وأخلصوا النصح باعتبار أنهم مثقفو البلد ومفكروه ، سواء هاجموا نظام الحكم أو لم يهاجموه ، سرعان ما استقبلتهم الدولة فى سجونها ومعتقلاتها حيث أمضوا زهرة شبابهم ونالوا من صنوف الإهانة والتنكيل والإذلال ما لا يمكن وصفه ، بعضهم خرج محطماً نفسياً وجسدياً فى حالة تصعب على الكافر ، حتى احتاج الأمر لسنوات أخرى ليستعيدوا توازنهم النفسى ويستردوا موهبتهم فى الإبداع الأدبى . وآخرون وهذا ما لا يمكننى فهمه أو استيعابه خرجوا أكثر قوة وأشد صلابة مما دخلوا ، وواصلوا مسيرتهم دون أى تأثر كأنهم كانوا فى رحلة أو تجربة عادية من تجارب الحياة ، تجاوزوها كأنها لم تكن . بينما كنت أقشعّر عند سماع ذكرياتهم عن تلك الفترة الرهيبة وما لاقوه فيها ، وربما أقضى أياماً لا أستطيع النوم من الأحلام المفزعة والكوابيس التى تهاجمنى طوال الليل ، على الرغم أن منهم من كان يحكى وهذا شئ عجيب وهو يضحك كأنه يلقى نكتة أو طُرفة عما حدث له فى سنوات الاعتقال ، ولم أكن أرى فى الأمر ما يدعو للضحك على الإطلاق ، لكننى كنت مع ذلك أجاريهم وأصطنع الضحك واتخذ مظهر اللامبالى وأوافقهم على أن تلك التجربة على الرغم من مرارتها من التجارب الثرية فى الحياة وأنها معين هائل للخبرة الإنسانية أنضجتهم كمبدعين ، كنت أقول هذا الكلام الفارغ لأواسيهم وأهون عليهم ولأدفع عن نفسى تهمة الجبن والتخاذل فى الوقت نفسه ، مع أن أوصالى كانت تصطك رعباً فى تلك الجلسات التى كانت تجمعنا بعد الإفراج عنهم ، فكلمة السجن أو المعتقل تفزعنى ، لا أطيق أن يغلق علىّ باب وأظل حبيس الجدران طوال اليوم ، ذلك يكفى ليصيبنى بالجنون ، ناهيك عن إجبار المرء على معاشرة أفراد بعينهم ومشاركتهم الطعام والنوم إلى آخر هذه الأشياء البغيضة التى لا تطاق . أستطيع الآن أن أقول كلمتى للتاريخ بعد هذا العمر الطويل ، رأيت الكثير وسمعت وعرفت من أشخاص أثق بهم أكثر بكثير مما رأيت ، كنت قريباً من الدهاليز السرية بحكم اشتغالى بالأدب منذ مطلع العشرينيات من عمرى واتصالى الوثيق بالصحافة والصحفيين حيث تتجمع كل أسرار الدولة وأخبار المجتمع وكبار المسئولين ، برغم أننى لم أعمل يوماً بالصحافة ، لم أكن صحفياً ولا أستطيع ، كنت أديباً منذ البداية ، أكتب القصص والروايات ، وأنشر أعمالى فى الصحف والمجلات ، وأكتب المقالات عندما يعنّ لى ذلك أوعندما أرغب فى التعبير عن رأى معين أو إذا طلب أحد أصدقائى الصحفيين أن أكتب عن موضوع ما مقالاً أو سلسلة مقالات تنشر تباعاً ، لكن فى كل هذا كنت دائماً فى غاية الحذر ، أطبق قاعدة ذهبية تعلمتها من الرؤوس التى رأيتها تسقط ومن الرقاب التى كانت تطير من حولى ، ليس كل ما يعرف يقال ، و لسانك كالحصان من الممكن أن يسير بك الهوينى فوق الصخور والأشواك أو يرمح بك إذا فقدت زمامه ، فتسقط وتتكسر عظامك وساعتها لن يسمى عليك أحد . أحد أهم أسباب صمودى ورسوخ أقدامى فى عالم الأدب هو عدم احتياجى مادياً بحكم انتمائى لعائلة ثرية ، لم أسع إلى دور النشر والصحف بحثاً عن الرزق أو عن وظيفة كما كان يفعل الكثيرون من الزملاء ، عملت فى وظيفة حكومية عقب تخرجى كأى شاب من جيلى فقط للحفاظ على وضعى الاجتماعى بين الناس ، كنت ومازلت عاشقاً للأدب وللكتابة حباً فى الفن وليس لأى غرض آخر ، حتى الشهرة كنت أتمناها بالطبع كأى أديب لكننى لم أسع إليها ولا أدعى حتى وأنا فى هذه السن المتقدمة أننى حققت منها شيئاً يذكر ، صحيح أننى أظهر أحياناً فى التليفزيون فى البرامج الثقافية التى لا يشاهدها إلا عدد محدود للغاية من المشاهدين ، وأتكلم كثيراً فى البرامج الإذاعية لكن يبدو أن أحداً لا يسمعنى ، اللهم إلا أفراد أسرتى وأصدقائى من الأدباء الذين يتابعون مثل هذه البرامج لا لشئ إلا لأنهم هم أنفسهم يتكلمون فيها ، لكنى معروف وبشكل يرضينى داخل الوسط الثقافى عموماً ، أما على مستوى الجمهور فأكاد أن أكون مجهولاً لديهم . لا أعتقد أنى كنت سأواصل الكتابة لو كان هم المال يشغلنى أو ولدت فقيراً مثلاً لا قدر الله ، ساعتها كان لابد أن أبحث عن عمل أو وظيفة محترمة أولاً توفر لى حياة كريمة أستقر فيها مادياً ، فلا طاقة لى على حياة الفقر أو التشرد والصعلكة وقضاء أيام بأكملها فى الشوارع وعلى الأرصفة ، كما فعل العديد من الأدباء والشعراء الذين حاربوا الفقر بضراوة وحاربهم الفقر أيضاً وبمنتهى القسوة وعانوا من أجل موهبتهم وضحوا فى سبيلها بكل شئ ، لعل هذا النوع من الحياة قد ساعد الكثيرين منهم بعد ذلك على تحمل فترة السجن والتعايش معها، ففى رأيى وهذا لم أصرح به لمخلوق من قبل أن السجون كانت أرحم لهم من هذه الحياة الصعبة ، على الأقل يضمن الواحد منهم وجبة طعام مهما بلغت رداءتها فهى أفضل من لا شئ ، ويعرف مسبقاً المكان الذى سيقضى فيه ليلته وينام ، لكن فى نفس الوقت كنت أشفق بشدة على بعض الأصدقاء الذين أهينوا فى المعتقلات ممن تعاملوا مع الإبداع برقى واحترام ولم ينجرفوا إلى الشطط والمجون فى حياتهم الشخصية بدعوى التحرر والانطلاق إلى سماوات الفن ، أما هؤلاء الذين تركوا كل شىء من أجل الأدب والكتابة ولم يعملوا أو لم تكن لديهم القدرة على عمل شىء آخر أصلاً ، فلم أوافقهم أبداً مع اعترافى أن بعضهم كان يمتلك موهبة فذة سواء فى الشعر أو فى الكتابة الإبداعية ، فتفرغ تماماً ليجعل حياته تدور فى فلك موهبته ، بالنسبة لى كان هذا هو المستحيل بعينه ، أستطيع أن أعطى وقت فراغى بأكمله مضحياً براحتى وساعات نومى وبالصلات العائلية أحياناً لأوفر لنفسى وقتاً للقراءة والكتابة ، أغلق باب حجرتى بالساعات ولا أسمح لمخلوق أن يعطلنى ، فإن أقل تشويش يفقدنى تركيزى ويخرجنى من الاندماج فى الحدث الذى أكتبه ، فالحق أننى أميل للعزلة بطبعى ومنذ الطفولة ، وهو الأمر الذى أنعكس على حياتى الأسرية التى لم تعرف الاستقرار، تزوجت ثلاث مرات فقط ، جموح الفنان الذى يسكن داخلى تركز فى عشقى البالغ للمرأة وللحب ، فى هذا الجانب أنا صعلوك تماماً ومتشرد فى شوارع الحب وعلى أرصفة النساء ، لا أطيق معاشرة امرأة واحدة لمدة طويلة ، فأنا ملول من هذه الناحية ، بحثى عن الجديد فى الحب لا يتوقف ، أحب صحبة الجميلات لكنى فى نفس الوقت أسأم من هذه القيود اللصيقة التى تفرض علىّ بعد الزواج ، ربما كان هذا هو الجزء المتمرد فى نفسى كفنان لا أستطيع السيطرة عليه مهما حاولت . أما عشقى الآخر فهو السفر والترحال فى بلاد العالم ، وهذا ما أضفى الطابع المتميز على كتاباتى ، فالعديد من أعمالى الأدبية تدور أحداثها فى دول مختلفة خاصة دول أوربا التى تجولت فيها وعشت أياماً من عمرى أتلمس الثقافة بين مكتباتها ومتاحفها بشغف لا يعرف حداً ، كما كنت مهتماً بالتقدم العلمى والبحث فى أسبابه ، فى الوقت الذى حرصت فيه على الاقتراب من الناس والتعرف على طبيعتهم وسلوكهم وأساليبهم فى الحياة ، وهو ما فعلته أيضاً عند سفرى إلى شرق آسيا برغم أنها كانت زيارة وحيدة ، مما جعلنى أكتب عدة كتب فى أدب الرحلات بالإضافة إلى ما أوحت لى به هذه الأسفار من أفكار قصصية . برغم حرصى البالغ وما تولد لدىّ من حس أمنى ، بحكم ما شاهدته من رءوس ورقاب ساقطة وطائرة ولأسباب كانت فى بعض الأحيان بالغة التفاهة ، إلا أننى وقعت فى المحظور دون أن أقصد ، كتبت فى أحد كتبى عن الحرية التى يتمتع بها الناس فى إحدى دول أوروبا الغربية ووصفت مشاهداتى فى ذلك ، كنت أقصد نقل صورة الواقع لا أكثر ، وفى فصل آخر كتبت عن دول أوربا الشرقية ومايعانيه الناس من فقر وقمع مقارنة بما يحدث فى الدول المجاورة خاصة على مستوى المعيشة وكان الفارق كبيراً بالفعل بحيث لفت انتباهى ، ولم يكن من الممكن أن أتجاهل أمراً كهذا وهو أحد أهم شواغلى فى الحياة ، فلا أعتقد أن الله قد خلق الناس ليعذبوا ويعانوا البؤس فى حياتهم ، لكن البشر يظلمون أنفسهم بطغيان بعضهم على بعض ، ويبدو أننى أسهبت أكثر من اللازم فى الحديث عن الحرية فى الدول الديمقراطية وانعكاسها على حياة الناس من ناحية ، وأثر غياب الديمقراطية على حياة الناس فى الناحية الأخرى ، مما عده البعض تعريضاً بنظام الحكم ، وحدثت حولى حركة مريبة من التحرى والهمس والهمهمة وسألنى أحد الكتاب من منافقى السلطة صراحة مستخدماً أسلوبهم السوقى فى الكلام ، أنت بتلسن على الحكومة فى كتابك الأخير ولا قصدك إيه ، تكلمت مدافعاً عن نفسى قدر طاقتى مخفياً رعبى من العاقبة ، لكنها فى النهاية مرت على خير ، بعد أن تلقيت عدة رسائل شفوية بطرق ملتوية غير مباشرة فى أغلب الأحيان وبشكل تحذيرى مباشر مرة واحدة لكن المضمون كان واحداً ، احترم نفسك و بلاش تلعب بالنار .