تمر السنوات وتجري تحت الجسور مياه جديدة وكثيرة وتتغير الأمزجة وتتبدل الأحوال ويتصالح الجميع مع الماضي إذا أرادت عجلة الحياة أن تسير فالكلمة التي إختارتها الكثير من الشعوب لطى صفحات الماضي كانت " المصالحة " مع النفس والمصالحة مع " الماضي " وقد ترى الشعوب بعد سنوات من الثورات والفورات السياسية أو الإقتصادية أن التصالح مع الماضي هو سبيل العبور للمستقبل ، هذا ما قاله الناخب الكوري الجنوبي من يومين وإختار السيدة بارك جيون هاي رئيسة للبلاد لفترة رئاسية قادمة بحصولها على 51.6% من أصوات الناخبين ومتفوقة على مرشح حزب المعارضة الرئيسى مون جاى والذي تجمعت كل قادة المعارضة وأحزابه حوله لمقارعة المرأة الحديدة الجديدة فقد اتفقت جميعا علي المرشح مون وتنازل كل المرشحين والمرشحات الأخرين وأعلنوا جميعا أنهم يقفون خلف مون لتحدي مرشحة الحزب الحاكم الا أن الفوز كان حليف بارك التي تبلغ من العمر 60 عاما لتتولى منصب الرئاسة خلفا لزميلها فى الحزب لى ميونج باك ولفترة رئاسية واحدة فقط لخمس سنوات – حسب الدستور الكوري الجنوبي – والحقيقة أن الشعب الكوري الذي تحتل بلاده مركزا متقدما وسط أفضل دول العالم إقتصاديا قد ذهب لصناديق الإقتراع ليس فقط للخروج من أزمته الإقتصادية التي طلت منذ سنوات بتراجع معدل النمو الإقتصادي ل2% وسط زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء . ولكن ذهب الشعب الكوري الجنوبي أيضا من أجل تقرير نظرة الناخب والشعب لجزء من الماضي كما روجت حملة المعارضة الشرسة ضد تاريخ والدها مؤسس الدولة الحديثة في كوريا, بالرغم من أساليب القمع التي كانت تمارسها أجهزته ، فالسيدة بارك هي إبنه الرئيس الكوري الجنوبي الأسبق بارك تشونج ديكتاتور البلاد لفترة طويلة من الزمن فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى وكان رئيسًا لكوريا الجنوبية فيما بين عامي 1963 و1979م. واستولى على زمام السلطة وصار رئيسًا للدولة في عام 1961م، عقب قيادته لانقلاب عسكري ضد الحكومة المدنية. وفي عام 1979م اغتاله رئيس وكالة المخابرات المركزية في كوريا. وبالرغم من إثارة الجدل حول زعامة بارك إلا أنه كان ممن ساعد على إنشاء صناعات جديدة كثيرة في كوريا الجنوبية وتطورت وسائل التنمية الاقتصادية بصورة مطردة وسريعة في عهده. ومن ناحية أخرى، تشددت حكومته في تقييد الحريات الفردية للمواطنين. فلقد أصدرت قوانين تُحرم النقد الموجه لرئيس الجمهورية أو الدستور مما أدى إلى إعطاء الرئيس بارك سلطة كادت أن تكون مطلقة. وأُودع كثير من المواطنين السجن بسبب نقد سياسته. وأُعلن بأن الحكم القاسي ضروري لتجنب الهجوم من كوريا الشمالية. وتميز تماما مثل زعماء النمور الإقتصادية المؤسسين بنظام قمعي وتعويض ذلك برخاء إقتصادي كبير ويحكي عنه أنه أثناء القائه لخطاب في المسرح القومي في منتصف عام 1974 ، ظهر فجأة أحد المعارضين لسياسته من المتعاطفين مع الجارة الشمالية وبيده مسدسه وجه طلقاته السريعة الى الرئيس بارك الذي إنحنى هو الأخر سريعا لتصيب الرصاصة القاتلة منتصف جبهة زوجته الجالسة خلفه لتموت على الفور فما كان من الرئيس بارك الا أن طلب من الجنود القبض على المهاجم ونقل جثة زوجته للخارج وخاطب الجمهور بلهجة هادئة وهو يقول " السيدات والسادة ، لا تنزعجوا الأن سأكمل خطابي اليكم ؟؟ " ، فعندما تسلم بارك السلطة 1961 كانت كوريا الجنوبية بين أفقر دول أسيا وثلث سكانها ال24 مليون كانوا جائعين وتحت خطر الفقر المدقع وكانت نصف الموازنة تأتي من المعونات الأمريكية ، فقدم بارك نموذجا جديدا في النهوض الإقتصادي الواعد وترك بلاده عام 1979 وهي تصنع الإليكترونيات والسيارات والسفن والفولاذ ، ليختاره الشباب الكوري هذا العام من أفضل ثلاثة رؤساء في تاريخ كوريا الجنوبية بحسب نتائج استبيان أجرته شبكة كي بي اس وجامعة كوكمين في سيئول استبيان على 1.348 شاب في مختلف أنحاء البلاد ، حيث طلبتا منهم تقديم درجات من 1-5 لكل رئيس كوري جنوبي سابق ، فسجل بارك أعلى الدرجات 3.78 كمتوسط وهو المؤشر الذي إعتبره الكثير من المحللين تصالحا مع الماضي من الجيل الجديد الذي تناسى قمع بارك للحريات مقابل الإنتعاش الإقتصادي الذي تركه . ورثت إذا إبنته جيون هاي إرث أباها الذي تركها تصعد سلم السياسة والسلطة ضمن الحزب الحاكم وتقول أمام حشد من أنصارها فى العاصمة سول بعد فوزها " هذا انتصار تحقق بأمل الشعب فى التغلب على الأزمة والتعافى الاقتصادى" ، لتقدم هذه الاتجربة الكورية شكلا جديدا من نظريات دمقرطة الإقتصاد وهي التي قدمت برنامج أكثر إهتماما بوضع الطبقة الفقيرة في البلاد ، يقول المحللون أن خلفيتها الإجتماعية والسياسية كإبنة للديكتاتور الكوري بارك قد ساهمت بشكل أساسي لفوزها حسب التقارير التحليلية التي أعقبت فوزها ودليل أخر على نظرة الشعوب الى ماضيها القريب أو البعيد وإعادة الحسابات حول مواقفها السابقة ، وهي تجارب سبقتها اليها الكثير من الدول والتجارب في دول العالم المختلفة شرقا وغربا وتناولتها الدراسات بشكل أكثر تعمقا وأطلقت عليه بعض المنظرين إسم " التصالح مع الماضي " وكانت أقصى التجارب التي يتم فيها التحاور حول تلك النظرية هي حالات المصالحة الوطنية بعد حالات الإبادة الجماعية وإنتهاكات حقوق الإنسان كما حدث في دوللا أمريكا الجنوبية أو دول أوروبا الشرقية وكما حدث في البوسنة ودول البلقان ، وكان السؤال الأهم في هذا التوصيف هو " متى يجب على الأمة أن تكون تجعل الماضي الماضي؟ " ، و كيف توازن الأمم بين الحاجة إلى العدالة وحاجتها للمضي قدما؟ ، ووصف الكثيرون من الدارسين لتلك المصالحات إنتهاج ما يسمى " بالنسيان الإنتقائي " لبعض أحداث الماضي للوصول للسلام المجتمعي ، ولعل تجربة الزعيم الأفريقي الكبير نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا أحد أهم تلك التجارب في تاريخ المصالحات المجتمعية في العالم ، فبعد خروجه من سجن طال 28 عاما في سجون التفرقة العنصرية ، خرج مانديلا وليس في يده سيف الإنتقام من الأقلية البيضاء ولكن في يمينه وثيقة مصالحة تاريخية بين أكثرية سوداء قبعت تحت نير أكثرية بيضاء مستبدة ليوجه لشعبه رسالة واضحة وهي أنه يوافق على صعوبة أن يجعل الناس تغفر لمن أساء اليهم ، ولكن من الأفضل للشعوب أن تسامح حتى لا تفشل البلاد كلها ، وفي مقال هام لمحامي شهير وكاتب أخر جنوب إفريقيا على هذا التصالح التاريخي أشار الى إستخدام النظام الإسلامي في التصالح بتنازل الضحايا عن حقوقهم في تحقيق العدالة وجعلها جزء من الإيمان ، وأنشأ اتفاق السلم الوطني (1991) عدد من اللجان السلام على جميع المستويات لتحقيق تلك المصالحة المنشودة مع الماضي ومع النفس ، وربما يكون الحوار هو أول طريق المصالحة كما فعل الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف عام 1972 في زيارته التاريخية لألمانياالغربية وكانت هذه اول زيارة يقوم بها الزعيم السوفيتي منذ نهاية الحرب العالمية. وخلال هذه الزيارة، التقى مع هيلموت شميدت زعيم المانياالغربية . وفي حفل عشاء غير رسمي، بدأ بريجنيف قصص سرد الفظائع الجيش الألماني في روسيا خلال الحرب. استمع شميت باحترام. عندما استجاب بريجنيف الانتهاء شميت من خلال تقاسم تجربته الشخصية كونه جنديا على الجبهة الروسية، بما في ذلك مشاعره الخاصة من الشعور بالذنب والقلق بشأن غزو ألمانيالروسيا ، وفي مذكراته شميت يحدد هذا الحادث بانه لحظة تقاسم العاطفي والتوفيق. في حين لم يقدم اعتذارا شميت صريحة، وبريجنيف لم يقدم الغفران واضحة، ومع ذلك يعتقد شميت هذه الحالة إرساء الأساس للاحترام المتبادل بين الزعيمين وبداية للمصالحة والغفران عن الماضي . " نعم المصالحة هي عملية صعبة وبطيئة للغاية ، ولكن الشعوب التي تريد الخروج من النفق المظلم تجد نفسها مضطره لهذه العملية مع الماضي لتصل الى بداية طريق المستقبل " كلمة أهمس بها في أذن الفرقاء في الوطن .