لا يزال الاستقرار أملا يتطلع إليه المصريون بعد ما يقرب من عامين علي ثورة25 يناير. وليس هذا سهلا في المدي القصير, لأنهم لا يريدون أي استقرار, أو قل إنهم لا يرغبون في إعادة إنتاج الاستقرار الذي فرض عليهم من أعلي لعدة عقود. فالاستقرار ليس هدفا في ذاته, وإن كان الأمر يبدو كذلك بالنسبة إلي كثير من المصريين الذين أعياهم استمرار الاضطراب لما يقرب من عامين. ولا يكون الاستقرار حقيقيا إلا حين يقترن بتقدم في أوضاع المجتمع, وتحسن في حياة الناس, ونمو في الاقتصاد وتوزيع عادل لثمار هذا النمو ومشاركة شعبية فعالة, وشعور بالكرامة الإنسانية والوطنية أي كرامة المواطن ورفعة الوطن. والمسافة واسعة بين استقرار المجتمع علي هذا النحو, واستمرار أي وضع قائم. فما أبعده الفرق بين الاستقرار والاستمرار. وهذا هو الفرق بين ما يتطلع إليه المصريون الآن وما ضاقوا به علي مدي عقود حين بدت مصر كما لو أنها مستقرة بينما كانت في واقعها مكبلة بأغلال ثقيلة منعت ظهور الاضطراب الذي ظل يتراكم تحت السطح. وقد أصبح واضحا أن العدالة الاجتماعية هي المعيار, الأول لإمكان تحقيق استقرار حقيقي في الفترة المقبلة. ولأن هذه العدالة لا تتحقق في فترة قصيرة, يتوقف سيناريو الاستقرار علي توفير أمل قوي يقترن بثقة حقيقية في أنها قادمة في مدي زمني معقول. ولا يمكن إيجاد هذا الأمل إلا إذا وفر الدستور الجديد ضمانات جدية للعدالة الاجتماعية من خلال منهج يعتمد التفصيل في الحقوق المرتبطة بها, بما يضمن للفلاحين مثلا ضمانات للحصول علي المستلزمات الزراعية وتسويق المحاصيل التي يبكون بجوار بعضها بعد حصدها, ولحمايتهم من افتراس بنك الائتمان الزراعي لهم, وتخصيص حصة لفقرائهم ومعدميهم في الأراضي المستصلحة والظهير الصحراوي. ويحتاج العمال بدورهم إلي ضمانات بشأن العمل والأجر العادل والحماية من الفصل التعسفي والحق في الاحتجاج بما يضمن عدم تقييد إجراءات اللجوء إلي الإضراب القانوني حتي لا تنتشر, الإضرابات خارج إطار القانون, وغيرها من الضمانات التي لا يتسع لها المجال هنا. ومن أهم المآخذ علي مسودات مشروع الدستور الجديد, والتي دفعت بعض أعضاء الجمعية التأسيسية إلي رفضها, هو إغفال مسألة العدالة الاجتماعية والاستهانة بها والتعامل معها كما لو أنها أمر ثانوي. وهذا منهج دستوري شديد الخطر لأنه لا يساعد علي بناء الثقة اللازمة للاستقرار, ولا يوفر الأمل في العدالة الاجتماعية حتي إذا لم تتحقق بسرعة بسبب كثرة المشاكل المتراكمة. فسيبقي الاستقرار المنشود بعيدا إذا اتجهت الحكومة, سواء الحالية أو التي قد تتشكل عقب الانتخابات البرلمانية القادمة, إلي إعطاء أولوية لتحريك الاقتصاد علي حساب البدء في إيجاد حلول مقنعة لمظالم اجتماعية هائلة تراكمت علي مدي أربعة عقود. وقد يحدث ذلك في ظل صعوبة التوفيق بين المتطلبات التقليدية لتحريك الاقتصاد, والتي تشمل منح حوافز كبيرة للمستثمرين وفرض قيود علي الاحتجاجات واللجوء إلي الاقتراض المشروط بالحد من الإنفاق الاجتماعي من ناحية, وضرورات التعامل الجاد مع مظالم يعاني منها أكثر من نصف المصريين وبلورة رؤية مستقيمة للحد من هذه المظالم وتوفير الأساس اللازم لسياسة اجتماعية أكثر عدالة وليس فقط أقل ظلما من ناحية ثانية. فإذا لم تتيسر الامكانات اللازمة لمثل هذه السياسة, سيتوسع نطاق الاحتجاجات الاجتماعية إلي الحد الذي يصعب في ظله احتواؤها بالقوة. وهذه هي حالة الاستقرار المضطرب التي يستمر فيها الرهان علي الوقت لتحقيق بعض الإنجازات ومحاولة تعويض غياب إجراءات اجتماعية رسمية لرفع المظالم باعتماد سياسة تقوم علي التوسع في الخدمات غير الرسمية والمساعدات (الصدقات) التي تقدمها بعض الجماعات. وربما تكون لنتائج الانتخابات البرلمانية القادمة أثرها في إمكان تجاوز حالة الاستقرار المضطرب قبل أن تتحول إلي اضطراب مستقر. وإذا كان معظم التوقعات يميل إلي عدم استبعاد حصول حزب الحرية والعدالة علي أكثرية نسبية, فليس هذا مؤكدا في الوقت نفسه, وخصوصا في ظل تعثر أداء الحكومة المحسوبة عليه حتي موعد إجراء هذه الانتخابات. ولنا في نتائج الجولة الأولي في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في مايو 2012 أسوة. فقد أدي ضعف أداء حزب الأكثرية في مجلس الشعب إلي حصول مرشحه في الانتخابات الرئاسية علي أقل من نصف عدد الأصوات التي حصدها مرشحوهم في الانتخابات البرلمانية. كما أنه لم يفز في الجولة الثانية في الانتخابات الرئاسية إلا بصعوبة شديدة برغم سهولة التعبئة والحشد ضد منافسه في هذه الجولة لانتمائه قلبا وقالبا إلي نظام مبارك, بل قل إنه نسخة أخري من مبارك شخصيا. وهذا مؤشر يصعب إغفاله عند محاولة توقع نتائج الانتخابات البرلمانية القادمة. والحال أنه كلما تراجع عدد المقاعد التي سيحصل عليها حزب الحرية والعدالة في الانتخابات المقبلة, ستكون إمكانات استقرار السلطة أقل لصعوبة تشكيل حكومة متجانسة ومنسجمة مع رئيس الجمهورية. وعندئذ قد تتجه مصر إلي حالة اضطراب قد تستمر لفترة علي نحو ربما يجيز تسميتها اضطرابا مستقرا ربما يتعود عليه الناس في أحد السيناريوهات المحتملة, وقد لا يتحملون استمراره لأكثر من فترة قصيرة في سيناريو آخر. ويرتبط احتمال التحول نحو اضطراب من هذا النوع, بمواصلة إغفال أهمية مسألة العدالة الاجتماعية في الدستور الجديد. فإذا اقترن غياب سياسة تشرع في تحقيق هذه العدالة حتي الآن بإصدار دستور يغفل الحقوق الاجتماعية الأساسية للفلاحين والعمال والموظفين وأصحاب المعاشات, فضلا عن النساء والأطفال, سيتولد شعور عام بأن الأمل في انجاز أهم أهداف ثورة 25 يناير يتبدد. أما إذا تضمن الدستور الجديد ضمانات محددة وواضحة تحمي حقوق هذه الفئات, فسيكون مؤشرا علي أن العدالة لن تكون بعيدة. ولا ننسي أن وجود الأمل من عدمه هو العامل الرئيسي في تحديد المسافة بين الاستقرار والاضطراب. نقلا عن " الأهرام "