هل هي طبيعة مصر الضاحكة الساخرة الهزلية التى تفرض نفسها علينا فى أحلك الظروف حتى تمتزج بالدموع الابتسامة، أم أننا مللنا البكاء على هشيم الثورة ودم الثوار حتى صارت الثورة شهيدة والدم شاهد والعسكر هم أبطال المسرحية والجميع يشاهد. الفصل الأول من المسرحية بدأ بالتصفيق والتهليل دون التفكير عند اول لحظة من نجاح الثورة عندما خرج علينا نائب المخلوع ليعلن في آن واحد التنحي ثم التكليف، ومعلوم أن فاقد الشيء لا يعطيه فكيف تتخلى عن الحكم ثم تمنحه لغيرك، لقد كانت الشرعية الثورية هي الفيصل فى هذا الأمر ووجب الحكم ان يؤول اليها دون غيرها وذلك بالعقل والمنطق ،لكننا بعادتنا وفطرتنا كشعب طيب لا ننظر الا تحت اقدامنا فلم نر فينا حكيمًا الا المشير ولا أبطالاً إلا العسكر. ونسينا الشهداء وهتفنا لهم معللين بأن الجيش حمى الثورة برفضه استعمال العنف ، واذا كان المشير قد شهد بأن المخلوع لم يأمره بالتدخل او استخدام العنف.. اذن فالعلة ساقطة والحكم باطل والجيش لم يكن فى الصورة أصلا لحماية الثورة من عدمها . على كلٍ اصبح الشعب بعضه شهيد وبعضه جريح والبعض الآخر محكومًا والمجلس العسكري حاكمًا، وبدأت علينا تتساقط رحمات العسكري ونسائم الديمقراطية باستفتاء شعبي لتعديل دستور ميت فى الاصل لا يمكن ان تدب فيه الروح الا بمعجزة من معجزات المسيح ، لكن العسكري ظنها ثورة على شخص لا على نظام برجاله ووزاراته وبرلمانه ومجالسه النيابية والمحلية . على كلٍ ابتدأ الفصل الثاني من المسرحية بمعركة التخوين بين ال(لا) و(النعم) وفي الحقيقة أن كلا الطرفين خرج خاسرًا، فلو حكمت العقل لبضعة ثوانٍ لأدركت أن التعديل يشمل المواد الخاصة بشروط الترشح لرئاسة الجمهورية وهي ذاتها التى لن يستخدمها الشعب ولا يستخدمها احد لانها ستهمل بعد ان ينعقد مجلس الشعب ويضع دستورا جديدا ، فالاستفتاء كان لتحصيل ما هو حاصل لكن يظل عزاؤنا الوحيد ان كلاً منا اكتشف جزءًا مهمًا فى جسمه وهي اطراف أصابعه الملونة بالفسفوري. وتوالت فصول المسرحية الهزلية والكل يصفق وابتدأت دراما المحاكمات العسكرية وقانون الطوارئ وقانون الانتخابات والكل يشاهد، وحكومة شرف ورفض استقالته اكثر من مرة وكأنها رغبة متوحشة فى العناد والتجديف ضد تيار الثورة في الوقت الذي انشغل فيه الثوار بالتطهير والعزل انشغل غيرهم بما هو ابعد من ذلك.. انها لعنة الكراسي وداء السلطة . كثر المتشدقون والمتحزلقون والمتفذلكون وهدُر دم الثوار وانتهى عصر الثورة وابتدأ عصر الخبراء الأمنيين والعسكريين والسياسيين ولجنات تقصي الحقائق او بمعنى اشمل لجنات (ضحد) الحقائق وأصبح مكتب النائب العام عليه من الطوابير ما يفوق أفران العيش غير أن الناتج لا يكون خبزًا فى النهاية. الأحداث آلت الى انتخابات برلمانية باسم ثورة تسبب فيها الثوار وابتدأت تتوزع الكعكة ما بين اصحاب البيادات والأفرولات وآخرين لعبوا دور المتفرج وربما كفر بعضهم الثورة ولكن الستار عندما ينسدل عن الكعكة تنقلب الادوار، فالثائر يصبح بلطجيًا والسفيه يبدو خبيرًا ورب المال يعود ليصبح رب القرار. والآن يبدو المسرح هزليًا عشوائيًا أكثر من ذي قبل، لقد غابت شخصية البطل الأوحد واصبح الجميع ابطالا وبما ان الجميع ابطال اذن فالجميع كومبارس، كلٌ يتشدق باسم الثورة وينسب اليها نفسه بل يدعي انه الثورة ذاتها ، لقد اصبح الجميع ديمقراطيا بصورة ديكتاتورية حتى انني كلما وجدت احدا يتحدث باسم الثورة تذكرت كلمة الديكتاتور لويس الرابع عشر عندما قال "أنا الدولة والدولة أنا" فكلنا الآن يردد "انا الثورة والثورة أنا" وما يشعرنه بالغصة، حقا إن عدد الثوار فى ميدان التحرير يوم 25 يناير كان لا يتجاوز الاربعين ألفًا أما عدد اعضاء ائتلافات الثورة الآن تعدى الأربعين مليونًا. الآن الثوار فى مسقط رأس ثورتهم تتساقط رؤوسهم فيحصدها طرف ثالث غير معلوم الهوية من يوم 28 يناير وحتى الآن ، فكيف من ظل عاما لا يعرف طرفا ثالث سيظل أعوامًا يعرف مستقبل مصر؟، هم يحصدون الرؤوس ومعها رأس الثورة وجسدها الذي اغتصب بالأمس القريب، لا تظنوا انه كان جسد امرأة لقد كانت عورة مصر تتكشف امام اعين العالم وأحزنتنى تلك الصحيفة الصهيونية التى كتبت "المصريون ينكلون بنسائهم" . إنها أبشع صورة رأتها مصر وأبشع اتهام لمصر على مر العصور وأبشع فصل فى مسرحية لثورة وأبشع شيء اشعر به الآن هو انني قد مللت السخط فرحت أضحك ولكنه ضحك كالبكاء .