يكتظ العالم الإسلامي الآن بالعديد من القضايا المستحدثة التي تحتاج إلي اجهتاد جديد وتحديات وظروف ترغمنا علي إعادة بلورة خطاب ديني جديد، يعي مقتضيات الفترة وقضاياها وانعكاساتها ودورها في الواقع، لأن لكل عصر خصوصيته في إشكالياته وحلولها أيضا، ورواد العصر وأهله الذين يتسمون بطابع التغير تبعا لتغيرات العصر، ولا يصح علميا وعمليا استدعاء الحلول الماضية المبطقة في عصور بمعطيات ومتغيرات مختلفة لمعالجة المستجدات الحاضرة دون إعمال فكر وتوجيه إصلاح، إذ أحيطت الإشكاليات المعاصرة بهالة من التنوع والتعقيد، فلا يصلح معها استعارة جاهزيات السابقين وحلولهم وتطبيقها تحت ظل التباين الحاد والفوارق بين العصرين، مع وجود إمكانيات الاجتهاد والانتفاع من تلك الحلول على سبيل الاستئناس والاسترشاد واستخدامها كبنك معرفي لتجارب هامة وفارقة في تاريخ الامة. فالخطاب الديني يبقي دائمًا خطابًا هامًا ومتميزًا وحساسًا، ويحضر بقوة في كل عصر وفي كل الميادين، لما له من قوة تأثيرية وإقناعية تجعل العقول تذعن والقلوب تسلم، فيكتسب أهميته من أهمية الدين وعظم مكانته في قلوب الناس ومرسله الذي يمتلك معرفة دينية. ومنطلق الخطاب الديني الإسلامي من أسس محددة تحديدًا جازمًا، (القرآن والسنة والإجماع والقياس)، وهي المصادر المجمع عليها التي يقوم عليها بنيان الثقافة الإسلامية، وينتج عنها كل أطروحة فكرية إسلامية، أسسا مترابطة ومتصالبة كالشئ الواحد. وهنا إشكال يفرض نفسه بشدة، خصوصًا وأن العصر الحديث هذا ليس ككل العصور ولا معطياته ككل المعطيات نتج عن هذا مستجدات عدة، إنه التجديد، هل هو تجديد في أصول الدين أم تجديد في فهم وإستيعاب النص المقدس؟ ، وهو ما يدفع بشدة إلى تناول موضوع الاجتهاد في هذا العصر. فالاجتهاد هو المنفذ والملاذ الصحيح الوحيد الذي يسمح للخطاب الديني بالتجدد من خلال ما يسمح به النص وفقا لقواعد علم أصول الفقه وتبعا لآلياته، من غير إهدار لتراث أمة عميقة ولا الانسحاب والهزيمة أمام تحديات العصر المحتدمة. ولماذا يتوجس بعض المسلمين الاعتراف بضرورة التجديد ليبقى كل شيء كما كان يعهد، فليس في الإمكان أفضل مما كان، إيثارًا للإلف وتوجسًا وارتيابًا من كل حديث وجديد أو مشتق منهما، فهو يفضل أن يبقى فكره وخطابه متكلسًا مترهلًا مهترئًا ألف مرة على أن تناله يد التجديد، أو تطاله بواعث التحديث وأسبابه؟ إن هذه سمة واضحة من سمات الضعف والانحطاط والهزيمة النفسية، كما الارتماء في أحضان التغريب وكل جديد هزيمة نفسية أيضا. ! الفرق بين النص والخطاب: النص ( القرآن ، السنة ) فوق المحاسبة والاتهام والتجديد، لا يمكن المساس به، فهو نص مقدس معجز صالح لكل زمان ومكان، يأتي في مقدمة الأدلة الشرعية والحجج الدينية التي لا يمكن دحضها والمنزهة عن كل تحريف وشبهة. أما الخطاب الديني هو الخطاب الذي ينطلق من الرؤية الدينية مرجعا، لذلك فهو ما يستبطنه ويفهمه ويفسره الفقهاء والعلماء من النص الديني أو مصادر الاجتهاد. وهو الواسطة بين الناس وبين القرآن والسنة والتي توضح الإسلام وما فيه من أحكام، فهو طريقة ومنهاج في الاستنباط والتفكير والتصور وفي عرض تلك الاستباطات والأفكار والتصورات. فالمصطلحان متباينان لا يمسهما إلتباس وخلط وغموض يجعلهما بمثابة الواحد، فالنص ثابت أما الخطاب فله شقين، الاول منهجية تفكير واستنباط متمثلة في ( علم أصول الفقه ) الذي يراعي متغيرات ومعطيات العصر، الثاني منهجية وآليه في عرض وطرح تلك الافكار علي الجمهور . التراث والتجديد .. أم تجديد التراث: هناك فرق جوهري بين "التراث والتجديد"و"تجديد التراث" فالاولي هي الاجتهاد مع استصحاب ثوابته وأصوله المستوحاة والمستلهمة من أدلة الشرع، والثانية هي نقض الأصول وبناء فروع ومسائل علي أصول مستحدثة، مشاربها إما عقلية محضة أو غربية محضة. وعلوم الشرع علي دربين: الاول علوم الغاية ( الكتابة ، السنة ) وتمثل النص المقدس والتجديد في النصوص درب من الهزل والخيال وبحث ضائع. الثاني علوم الآلة وهي العلوم التي يتوصل بها إلي فهم وإدراك واستنباط حكم الله وهي علوم الاصول الآتي ذكرها. وعلوم التراث من حيث التجديد علي شقين: الاول ماكان التجديد فيه غير مستساغ ومرذول مثل ما كان في علوم الأصول ( أصول الدين، أصول الفقه ، علوم حديث، أصول تفسير وعلوم القرآن ، واللغة ). الشق الثاني ما كان الاجتهاد فيه مستساغ ويحسن تناوله بالتجديد مثل ( علم الفقه ، علم التفسير ) التي هي نتاج عملية معقدة المراحل عناصرها الاصول. فالالتزام بعلوم الاصول ثمرته تأويلات وأفهام ثاقبة صحيحة تضمن للنص اعتباره وقداسته وللشريعة ثوابتها وقواعدها، وللغة دورها في فهم السياق وصيغ الدلالات، وللعقل إعمال منطقه وللعصر حقوق واقع حاله ومسايرته بما يحقق سبل التيسير علي الناس، تحقيقا لمبدأ صلاحية الشرع لكل زمان ومكان ومجال، وماكان خلاف ذلك فهو في نظري تغريب للدين وتحريف وقصف لأركان الدين. توصيف واقع الاجتهاد المعاصر جراء قرون وعقود – من الجمود والتقليد – برزت بين صفوف المسلمين اتجاهات متباينة للتجديد، لكل منها مراميها ومفاهيمها الخاصة ، تتمثل في أربعة اتجاهات: 1- اتجاه إتخذ التجديد شعارًا وعنوانًا للتحلل من ربقة الإسلام بدعوته الصريحة إلى تجاوز الثوابت، وري المجتمع بمشارب الثقافة الاوروبية وهذا ما يعرف بالتغريب. 2- اتجاه إتخذ التجديد شعارًا لاجتهاد آسن سائب متحلل من كل الضوابط ومتجاوز لكل الثوابت باستخدامه لطرائق التأويل المخلة واصطدامه بالنصوص الصريحة. وهو وِإن اختلف عن سالفه – بعدم استبعاده للإسلام كليًة – فللشرع عندهم دورًا ثانويًا مقابل الواقع وحاجاته، حتى أضحت أحكام الشريعة قابلًة للتحريف والتعطيل بذريعة استلهام روح الشريعة ومقاصدها الكلية. 3- اتجاه بعض القوى الإسلامية الخائفة التي اشتد بها الخوف فإذا سمعت مثل هذا المصطلح، ترامى إلى أذهانها الشائبة أنها مؤامرة لتحريف الدين أو لتبديد ثوابت الخطاب فاعتبروا الاجتهاد مضيعة للجهد والوقت ووقفوا بتجاسر وتجمد حذاء مستجدات العصر ونوازله فأختاروا من ثقافة غلق الباب ديدنا، فما عرضت عليهم نازلة إلا واختاروا النهي عنها تحججا بسد الذرائع وغيرها 4- اتجاه اتخد من أسس الإسلام وثوابته منطلقا، متبعًا طرق التأويل الصحيحة، يبني فقها واقعيا وأولويا جديدا من غير معطل للأحكام، يجيب عن تحديات العصر ونداءاته ومشكلاته التي لا عهد للسابقين بها. والتجديد – بهذا المفهوم – يبدأ بالتأصيل لا بالتغريب. فالحقيقة: أنه لا مناص ولا حياد عن التجديد، وإذا لم نؤمن بذلك فأمامنا خياران الأول: الجمود ويعني ذلك الإطاحة بحق الحياة والواقع وتهميشهما وسحقهما في عصر تكتنفه حركة التطوير والمادية الثائرة من كل جهة. والثاني: الذوبان، وذلك معناه الإطاحة بحق الدين والشريعة والثقافة والتراث الإسلامي الوسيع الزاخر. أخيرا: التجديد يجب أن يكون في أيدي أهل التخصص وكفاية من التأهيل والعلم ويجب أن تكون أدوات التجديد ووسائله داخلية تلمس كنهه وتتحدث من داخل إطاره، وعلينا استصحاب الضرورات والقواعد الشرعية والمحكمات الدينية الثابتة،كما يسميها ابن تيمية (الدين الجامع) كأصل ثابث في عملية التجديد، فالتجديد لا يتعدي كونه تجديدا وتطويرا في التعامل مع المستجدات والمسائل وفق آليات الاجتهاد المراعية لفقه الواقع وعالم الاشخاص وعالم الافكار من حولنا، وتجديد في أسلوب العرض والجذب بعيدا عن طرق العرض القديمة وتعقيدات المتون والشروح والحواشي والتقريرات فحتي طلبة العلم باتوا يستشعرون صعوبتها وينفرون منها متجهين بطاقاتهم البشرية الثائرة نحو كتابات المتشديين والعلمانيين، فنحن في عصر يعاني من التعامل مع مثل هذا النوع من العرض.