لم أكن أحب أن أخوض في قضية الطلاق، لولا أن لاكتها أفواه بعض المتفيقهين في هذه الأيام، مما يُعتبر البيان معه واجبًا، والسكوت إثما. ولعلي لا أهوِّن الخطب إذا قلت إن الجدلية القائمة في أذهان بعض المثقفين حول قضية الطلاق ليست إلا فرضية عجيبة أقنعهم بصحتها شدة بُعدِهم عن منابع الشرع، واستغرابهم إلى الحد الذي صاروا به أجسامًا تسكُنها أرواح غيرهم. تتمثل تلك الفرضية عند هؤلاء في أن الإسلام تحيَّز للرجل حين وضع شرعة الطلاق بيده، فجعله يملك قرار بقاء المرأة في بيتها أو عدم بقائها فيه، فإن كانت المرأة سعيدة في حياتها راغبة فيها، فما أسهل أن يفاجئها زوجها بقرار طردها من تلك الحياة، وإن كانت تعيسة في حياتها غير راغبة فيها، فليس لها حق الانفصال عنها إلا بإرادة الزوج ورغبته. وإذا كان بعض الأزواج يتلاعبون بالطلاق، فيجعلونه قسَمًا على كلِّ صغير وكبير، أو يتخذونه عصا يخوفون بها زوجاتهم في كلِّ لحظة، لتكون الزوجة وأطفالها في النهاية ضحية لاستهتار زوجها ونزواته، فأين العدل في مثل ذلك النظام الذكوريِّ المتحيِّز؟! هكذا يسوغ للبعض أن يتهم الإسلام بالتحيز للرجل في قضية الطلاق بناء على فهم مغلوط لحكم شرعي صادر من حكيم عليم، يعلم بأحوال خلقه وبما يصلح دنياهم وآخرتهم. والعجب من هؤلاء الذين رأوا في نظام الطلاق في الإسلام موطن تحيز للرجل، في حين لم يروا في نظام المهر والنفقة تحيزًا للمرأة، مع أن قضية الطلاق في الإسلام مرتبطة تمام الارتباط بقضية المهر والنفقة، حتى يبدو كلاهما أشبه بكفتي الميزان اللتان لا غناء لإحداهما عن الأخرى عند الوزن والتقدير. فقد جعل الله سبحانه من المهر والنفقة مغنمًا للمرأة، في ذات الوقت الذي جعل من الطلاق مغرمًا عليها، بينما جعل الطلاق مغنمًا للرجل، والمهر والنفقة مغرمًا عليه، فأين مظهر اللامساواة في هذا القانون الحقوقي المتكافيء؟!. ربما يحلو للبعض أن يستعمل النظرة الحولاء، فلا يرى سوى إحدى كفتي الميزان، متعاميًا عن رؤية الكفة الأخرى، ليتمكن في النهاية من القول بأنه أمام ميزان ظالم يهدر حقوق المرأة ويتحيز للرجل!. والحق أن الطلاق في الشريعة الإسلامية ينقسم إلى قسمين: قسم يتم بإرادة مشتركة بين الزوجين، وهذا لا إشكال فيه. وقسم يتم بإرادة أحدهما دون إرادة الآخر. فإن كان الزوج يريد الطلاق والزوجة لا تريده، فقد قضى الشرع بوقوع مثل هذا الطلاق، على أن يصير كامل المهر للزوجة ولا يعود للزوج منه شيء، إضافة إلى متعة يقرر القاضي مقدارها، وعلى أن يستمر زوجها في الإنفاق عليها حتى تنتهي عدَّتها، وهو حكم عام لا يستثنى منه إلا حالتان مقرَّرتان في كتب الفقه. وإن كانت الزوجة هي التي تريد الطلاق والزوج لا يريده، فقد قضى الشرع بأن ترفع أمرها للقاضي لينظر في أسباب ذلك، فإن كان لضرر يقع عليها من عشرة الزوج أو تقصيره في شيء من حقوق الزوجية، وتعذر الإصلاح بالطرق الممكنة؛ حكم بطلاقها، دون أن تخسر شيئًا من حقوقها التي ذكرناها. وإن كان السبب مجرد كراهية نفسية، أو نشوء علاقة عاطفية أخرى، وليس تقصير الزوج؛ حكم القاضي بطلاقها، على أن يستعيد الزوج كامل المهر الذي دفعه إليها أو جزءا منه حسبما يرى القاضي ويقع التراضي، وهو ما يسمى بالخُلع. فإذا أرادت الزوجة أن تمارس حق طلاق نفسها دون أن توسِّط القاضي في ذلك، فلها أن تشترط في عقد الزواج أن تكون عصمتها بيدها، فيمكنها حينئذ تطليق نفسها في الوقت الذي تريد. هذا هو النظام المتهم عند أهل الحداثة والمدنية بالظلم والتحيز، ولست أدري في أي جانب ذلك التحيز المزعوم؟ على أنا نطالب هؤلاء المتبرِّمين بنظام الطلاق في الإسلام أن يقدِّموا إلينا مشروعًا آخر يحفظ للرجل والمرأة حقهما في شراكة عادلة ومتساوية، فهل لديهم مثل هذا المشروع؟ لن نتلقى جوابا على هذا السؤال، ولا أظن الجواب موجودًا أصلا، فليس لدى هؤلاء المتبرمين إلا إعجاب أعمى بما يسير عليه الغرب في ليله ونهاره، فهل هذا ما يريدوننا أن نسير عليه؟ إن الزواج في الغرب لا يكلف الرجل ما يسمى عندنا بالمهر، ولا يوجب عليه نفقة على زوجته، ونتيجة ذلك أن الطلاق يقع في هذه المجتمعات بإرادة منفردة من الزوج وحده، ولكن دون أن يتحمل مغرمًا أو تبعة تجاه زوجته. ربما يقال إن هناك قانونًا في أمريكا يقضي بأن الرجل إذا طلق زوجته دون رغبة منها بأن تضع يدها على نصف ممتلكاته! فلتسأل إذن عن عدد الأزواج المطلِّقين الذين وقعوا تحت طائلة هذا القانون، لتعرف أنها لا تزيد على واحد بالمئة، لأن الطلاق الذي يقع هناك ليس إلا فراقًا غير معلن يقرِّره الزوج من طرفه، في حين تجتمع المسؤوليات والمآسي كلُّها على الزوجة المطلَّقة. ربما يرى البعض أن ننزع هذا الحق من الرجل، فنُسقط القيمة الشرعية من لفظ الطلاق، ونعتبرها كلمة فارغة عن مضمونها، طالما لم يوثِّقها لدى المحكمة! ولكني أتساءل: من الذي فوَّض هؤلاء في تفريغ تلك الكلمة من مدلولها الشرعي؟ لو كان نظام الطلاق في الإسلام نظامًا بشريًّا توافقنا عليه فيما بيننا لتنظيم تلك القضية، لكان من المعقول أن نفعل هذا. أما وإن المشرِّع سبحانه وتعالى هو الذي أعطى لتلك الكلمة مدلولها فكيف لكائن من كان أن يلغي ما قرَّره الله من صلة بين اللفظ والمعنى؟ وهل يصحُّ من فقيه يعقل قوله صلى الله عليه وسلم : «ثلاث جدُّهن جَد، وهَزلهنَّ جَد: النكاح، والطلاق، والرَّجعة» [رواه أبو داود وغيره]. أن يقول بالفصل بين كلمة الطلاق ومدلولها، بدعوى أنها شفهية غير موثقة؟ لو أنَّ أحدًا قال بإنزال عقاب زجري على من يستعمل كلمة الطلاق في غير القصد الذي وُضعت لأجله في الشرع، مُضيِّعًا بذلك مستقبل زوجته وأبنائه؛ لكان أحرى بالقبول، وأجدر بالموافقة. ولكنهم بدلًا من السعي في مقاومة هذا العبث بشرع الله، وبقداسة الزواج، وبكرامة الأسرة والأبناء، من خلال الأخذ على يد من يتخذها هزوا، راحوا يسعون في إسقاط أحكام الشرع المطهَّر. ﴿وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون﴾ [البقرة: 11].