كل مرة تصيبني لوثة أمل في غد أفضل وأفتح التلفاز لمشاهدة ما يجري على الساحة السياسية الآن، أصطدم بأحد البرامج الحوارية فأصاب بخيبة أمل ويأس تام من انصلاح الأحوال، لم يخب أحد تلك البرامج ظني مرة واحدة، ويخرج عن الصورة النمطية التي اعتدتها في الآونة الأخيرة، كل البرامج أصبحت عبارة عن "خناقة" مبتذلة بين طرفين يظن كلاهما أن علو الصوت هو دليل سلامة المنطق وقوة الإقناع.. وعندما تفشل هذه الإستراتيجية تبدأ إستراتيجية الردح ووصلات السباب والشتائم، هذا فضلاً طبعاً عن العراك بالأيادي وزجاجات المياه والأحذية، هذا فيما يختص بالضيوف. أما عن المذيع فأحد ثلاثة؛ إما حائر أفلت منه الزمام وفقد السيطرة على اتجاه الحوار فأصابه الفزع وأخذ يحاول التهدئة.. وإما منحاز لا يستطيع أن يخفي انحيازه فيستمر في مقاطعة الضيف الذي يخالفه الرأي بدون أي لباقة، في حين يصغي بانتباه شديد للضيف الآخر ويمنحه كامل الحرية في التعبير عن رأيه.. والأخير مذيع انتهازي لا يهمه سوى الانتشار والشهرة فيغالي في "الشعللة وصب الجاز على النار" كي يحّمي الوطيس وتزداد سعة المشاهدة، وفي كل الأحوال أخرج بصداع نصفي وقرار قاطع بألا أعاود المشاهدة مهما حصل. الكل ينادي بالحوار دون أن يفهم أحد أن الحوار نصفه إنصات وتفكير والنصف الآخر تعبير، فعندنا بكل فخر يتكلم الجميع ولا أحد يسمع.. فإذا حدث وسمع لا قدر الله، فهيهات ثم هيهات أن يفهم، أشعر وكأنني عدت بالزمن القهقرى لأقف أمام برج بابل، ذلك البناء الشامخ العظيم الذي توقف استكماله بسبب عجز الناس عن التخاطب، وللأسف مازلنا نرتكب الخطأ ذاته مرة بعد مرة دون أن نأخذ من ذلك الدرس التاريخي عبرة أو موعظة، فقد قضينا على ثورتنا العظيمة وضممناها إلى قائمة الإنجازات المهدرة بسبب عدم قدرتنا على التواصل أو حتى رغبتنا فيه. الكارثة الحقيقية تكمن في أننا شكلياً نتكلم نفس اللغة ونستخدم نفس المصطلحات، بينما فعلياً توجد لغة خفية تستتر بين الألفاظ وتتلاعب بالعقول تسمى لغة "الأنا"، فكل واحد يحاول تطويع اللغة ومفرداتها ومفاهيمها بالطريقة التي تحلو له والتي يستطيع بها أن يعزز منطقه في بلوغ مآربه وطموحاته الشخصية. مأساة لغة الأنا هى أنها لغة مصالح.. والمصالح الشخصية متنافرة ومتضادة بشكل لا يمكن معه التوصل إلى أية حلول وسط، مما يؤدي بالتالي إلى نشوب الخلافات والنزاعات والتناحرات ويعّجز الناس عن التواصل وبلوغ الأهداف البناءة. اللغة المشتركة التي أهملناها منذ زمن هى لغة تجمّع ولا تفرق.. لغة هادئة لا تمييز فيها ولا عنصرية ولا تحزب.. هى اللغة التي نتكلمها جميعاً عندما تثقل قلوبُنا بالحزن والموت والمرض، هى اللغة التي تلملمنا من مختلف بقاع الأرض لنحضر عرساً على أرض الوطن أو لنحتفل معاً بمراسم الأعياد، هى اللغة التي تربط بيننا في الملمات والشدائد وتجعلنا نقف يداً واحدة، نجابه الطغيان ونفضح تاريخاً مترعاً بالإساءة والمهانة والجور، هى لغة أحلام الطفولة البريئة.. وذكريات الأمس الغاربة.. والآمال المستقبلية المشرقة. برج بابل سيظل رمزاً على مدى التاريخ للورطة التي يقع فيها البشر عندما يعجزون عن التفاهم وعن مد جذور التواصل بين بعضهم البعض.