موجة الأمطار التى هطلت الأسبوع الماضى على الإسكندرية، وتسببت فى وفاة عدد من المواطنين، وإحداث خسائر مالية كبيرة، إلى جانب تعطيل الحياة اليومية فى العديد من أحياء المدينة، أسقطت ورقة التوت الأخيرة عن عورة المحليات، وأصبح من الضرورى بل ومن الملح فتح ملف الفساد الذى يرتع فى هذا القطاع مسببا خسائر مالية تقدر بالمليارات سنويا، ناهيك عن كونها منظومة الفساد الرئيسية فى هذا البلد التى أدت إلى انهيار أخلاقيات شريحة لا يستهان بها من المواطنين – وأقصد بهم العاملين فيها والمتعاونين معهم - الذى أثروا بدورهم على فئات أخرى مرتبطة بهم سواء على الصعيد المهنى أو الاجتماعى بأشكاله المختلفة. فساد تمدد وانتشر حتى طال طبقات المجتمع بأكمله.. فساد سنصاب جميعا بالذهول إذا ما تم الكشف عنه على الملأ، سواء من حجمه، أو من عدد الشخصيات العامة والمعروفة المستفيدة منه والمرتبطة به فى الخفاء. المسألة إذا ليست مسألة محافظ اهتم بمعالجة قضايا سطحية تافهة لا تهم المواطن من قريب أو بعيد، بقدر ما تبرز اسمه على الساحة وتجعله مادة يومية جذابة للآلة الإعلامية، التى تظهره بمظهر المسئول النشط الذى يتحرك باستمرار، وتتناول وسائل الإعلام أخباره وتتابع تحركاته ونشاطه، حتى يظل اسمه محفورا فى رؤوس رؤسائه المباشرين والمسئولين فى الدولة، بغض النظر عما يفعله أو يقدمه لأبناء محافظته من خدمات، متناسيا أن منصب المحافظ هو فى المقام الأول منصب خدمى يهتم بمشاكل الحياة اليومية للمواطنين والبحث عن حلول عملية وغير تقليدية لها، والتى ليس من ضمنها دون شك إدخال شبكة الإنترنت للترام ووضع ستائر على نوافذ عرباته، أو محاولة تسجيل اسمه فى موسوعة جينيس بأكبر مائدة إفطار رمضانية، متجاهلا إصلاح وتطوير البنية التحتية بالمحافظة وحل مشكلة شبكات الصرف الصحى، والعمل على إيجاد حل منطقى لمشكلة الباعة الجائلين الذين يشوهون المظهر الحضارى للمدينة، والتصدى لمشكلة الازدحام والتلوث السمعى والبصرى والهوائى، وإيجاد حلول رادعة لعمليات التسرب من التعليم، بمعنى آخر فإن مهمته كمحافظ تتلخص فى تيسير حياة المواطنين وليس تعقيدها أو تسطيحها، أو استغلالها لتحقيق مكاسب خاصة للترقى وشغل منصب أعلى. كما أن المسألة ليست مجرد انسداد بالوعات الصرف، وعدم الاستعداد لمواجهة التغيرات المناخية التى تمر بها المحافظة سنويا.. عدم استعداد وصل إلى درجة العجز فى مواجهة موجة من الأمطار معروف موعدها سنويا ومسجلة لدى هيئة الأرصاد الجوية. عجز لن تعالجه التضحية بالمحافظ وإقالته أو إجباره على الاستقالة، وتقديمه كبش فداء لإسكات الرأى العام، للظهور بمظهر السلطة ذات القبضة القوية التى تقتص من المسئول المقصر لأن المحافظ ببساطة هو آخر مسئول عن الكارثة يجب محاسبته، فقبله يوجد طابور من المسئولين والموظفين المرتبطين بالأزمة بصورة مباشرة، والذين يجب أن يحاسبوا أولا كل حسب موقعه منها. والمسألة ليست كذلك فى سياسة تغيير المحافظين بعد كل كارثة مثلما يعمل حاليا وزير التنمية المحلية أحمد زكى بدر الذي يقوم بمشاورات مكثفة لإجراء حركة محافظين تستهدف تغيير محافظي الشرقية والدقهلية والبحيرة والقاهرة والجيزة وكفر الشيخ والغربية وأسيوط والسويس وأسوان والبحر الأحمر. محافظات عانت معظمها من موجة الأمطار التى عانت منها الإسكندرية وواجهت نفس عدم الاستعداد والعجز لكنها لم تحظ بما حظيت به الإسكندرية من اهتمام إعلامى، وبالتالى لم يقال أي محافظ منهم أو يجبر على تقديم استقالته كما حدث مع محافظ الإسكندرية. والمسألة ليست فى وجود شبه اتفاق غير معلن بين المواطنين والدولة، يظهر بصورة جلية فى تصريحات المسئولين مع كل كارثة تقع، والخاص بتسعيرة الضحايا التى تعلنها الحكومة مقابل الصمت والتغاضى عن المطالبة بمحاسبة المسئولين المتورطين فى تلك الكارثة، والاكتفاء بمظاهرة التنديد التى تقوم بها أبواق الإعلام المرتبطة بالسلطة، التى تعلم تماما ما هو مسموح به والممنوع الاقتراب منه فى مثل هذه الحالات. والمسألة ليست فى التدخل السريع للقوات المسلحة فور وقوع الأزمة، وتواجدها المكثف فى الشوارع ومع المواطنين المتضررين، وقيامها بتوزيع المواد الغذائية والأغطية وتسليك بالوعات الشوارع وتسيير حركة المرور والمشاركة بقوة فى إصلاح ما أفسدته الأمطار وإعادة البناء، لأن ذلك ليس من مهام القوات المسلحة، وليس دورها، رغم أن حجم ما تقوم به من أعمال يكشف حجم فشل الحكومة وعدم قدرتها على التعاطى مع مشاكل وقضايا المواطنين بإيجابية وسرعة. المسألة يا سادة تتلخص فى أننا أمام منظومة فساد متكاملة أساسها أو رأسها المحليات، وهو فساد بدأ ماليا ثم تضخم واستشرى وتحول إلى مرض سرطانى أصاب المجتمع فى مبادئه وأخلاقياته، حتى تحول إلى حيوان متوحش يلتهم كل ما يلقاه فى طريقه، حيوان يزاد قوة وضراوة وشراسة كلما تقلص دور الدولة، وغابت السلطة القوية التى تستطيع أن تحكم قبضتها على الأمور، وتقوم بتفعيل القانون، وتقر مبدأ المحاسبة والمساءلة دون محاباة أو تمييز، سلطة لديها القدرة على مواجهة هيمنة أصحاب المصالح ومراكز القوى على مقدرات البلاد وأرزاق العباد.. سلطة تستطيع أن تقرر فورا فتح ملف الفساد المسكوت عنه فى المحليات منذ عقود دون أن يعيقها عائق أو يمنعها مانع.. سلطة تحسن اختيار المسئول المناسب وتعرف كيف تضعه فى المكان المناسب.. سلطة ينصب اهتمامها على مصلحة هذا الوطن والارتقاء به وبمواطنيه.. سلطة لديها ضمير حى، ولا تخشى فى الحق لومة لائم، ولا يعنيها سوى رضا الرب والشعب.. وطالما غابت هذه المواصفات عن السلطة أى سلطة فلا يحدثنى أحد عن الضحايا وحقوقهم، ولا عن التقدم والرقى والمساواة والعدل والحرية، إذ تصبح كلها مجرد شعارات جوفاء لا معنى ولا قيمة لها.