كانت المرة الأولى التي يسجن فيها رسام مصري بسبب لوحة، ذلك أنه لم يكتف برسم المرئي بل جعله مرئيا، بتعبير الفنان الألماني بول كيلي، أما الرسام الموهوب فهو عبد الهادي الجزار أحد أهم فنانينا التشكيليين، واللوحة هي لوحة الجوع أو الكورس الشعبي، والمعنى الذي جعله الجزار مرئيا هو الفقر الذي سكن الوطن في عهد الملكية ليطرد أهله في العراء حفاة انتهك الجوع أجسادهم، وأفرغ اليأس أرواحهم من أي أمل، فأطلوا على العالم المرئي من لوحة الجزار بعيون زائغة ملتاعة وملابس مهلهلة وأطباق فارغة من أي طعام. لوحة الجوع المملوكة لمتحف الفن الحديث أغاظت اللوحة السادة المتخمين بالثراء، فالجزار شفعها برسالة إلى الملك فاروق: هؤلاء هم رعاياك يا مولاي، فتحركت حكومة الباشاوات، ومن ورائها الملك، لاعتقال الجزار وصادرت اللوحة (1948) لتعدم، ولم يخرج صاحبها من السجن إلا بوساطة الفنانين الكبيرين: محمود سعيد ومحمد ناجي، وبعد أن تعهد ألا يعود لما فعله، لكنه عاد ورسم اللوحة نفسها ثانية (1951)، ليضمها متحف الفن الحديث إلى مقتنياته بعد ثورة يوليو. اللوحة التي أعدمها الملك وأحياها الجزار وأقتناها متحف الفن الحديث خرجت مؤخرا من مخازنه إلى معرض فني للرسامين السرياليين أقيم بمقتضي اتفاقية بين وزارة الثقافة وإمارة الشارقة، تُعرض فيه بجانب لوحات الوزارة مقتنيات الإمارة ولوحات عدد من هواة الفن التشكيلي، منهم رجل الأعمال نجيب ساويرس. لوحة الجوع المملوكة لنجيب ساويرس اختار ساويرس أن يضع بالمعرض من بين ما اختار لوحة لفناننا عبد الهادي الجزار، وللمصادفة كانت هي ذاتها بطلة قصتنا القصيرة، لوحة الجوع!. المعرض الذي بدأ في 28 سبتمبر وينتهي في 29 من الشهر الجاري بقصر الفنون في دار الأوبرا، يضم الآن لوحتين ل"الجوع"، والاثنتان ممهورتان بإمضاء الجزار وبتاريخ واحد (1951)، ما يعني أن واحدة منهما مزورة، وبالطبع فإن الوازرة مدانة في الحالتين، فلو كانت لوحة ساويرس هي الأصلية فهذا يعني أنها سُرقت من متحف الفن الحديث، لتتستر الوزارة على السرقة وعلى ساويرس صاحب اللوحة المسروقة، ولو كانت لوحة المتحف هي الأصلية ولوحة ساويرس هي المزورة فالوزارة تتستر عليه أيضا بل وتعطي شرعية للوحته بعد أن عرضتها في معرض رسمي لها. منع التصوير كان هو الإجراء الذي اتخذته وزارة "النمنم" بعد أن ثار لغط في الوسط الفني حول لوحة الجزار وغيرها من لوحات "مضروبة" لمشاهير الفنانيين التشكيليين، اقتناها هواة "واصلين" وأرادوا إضفاء المصداقية عليها فدفعوا بها لمعرض الوزارة!. لا مجال لتصنع الدهشة من سلوك وزارة الثقافة ومسؤوليها فالمنع والقمع والتجارة بأي شيء وابتذال كل قيمة هو سياسة دولة عليا، لا يستطيع "النمنم" أن يخالفها، لذا فمن تحصيل الحاصل أن تعرف كون جريمة وزارة الثقافة ضد الجزار في واقعة المعرض، ليست سوى حلقة من سلسلة جرائم لحقت بأعمال فناننا بعد أن اقترفت أسرته غلطة لا زالت تندم عليها إلى اليوم بأن أهدت الوزارة عددا من أعمال الجزار، وأرادت الأسرة مؤخرا الاطمئنان على وجود الأعمال بالمتحف، بعد تناثر شائعات حول سرقة أعماله وبيعها بأسعار فلكية، وعند الجرد لم يُعثر بالمخازن سوى على 32 لوحة فقط (بحالة مزرية) من أصل 35 لوحة، ومن بين اللوحات المفقودة لوحة رجل السد أحد أهم أعمال الجزار، بجانب 3 لوحات مزورة للفنان! (وبالقطع ليس فناننا فقط من تنهب أعماله من مخازن ومتاحف وزارة الثقافة!)، ومضت الواقعة لحالها ولم يحاسب أحد! إذن سرقة لوحة أخرى أو تزويرها ليست بواقعة ذات شأن ليهتم مسئولي الوزارة حتى برفع إحدى اللوحتين المعروضتين حتى لحظة نشر المقال، وعلى الفنان البائس الذي أختار له قدره هذه الأرض موطنا أن يدفع الثمن حيا وميتا!.