برحيل الدكتورة نعمات أحمد فؤاد يوم أمس، تنطوي صفحة ناصعة من صفحات الأدب والفكر والنقد والفن والتاريخ والنضال.. وبوداعها تجري مياه النيل حزينة على "عروس النيل" التي أحبت النهر العظيم، وألمت بتاريخه وتاريخ الحضارة المصرية على جانبيه، إلماما دفعها لنيل رسالتها للدكتوراة عام 1959 تحت عنوان "النيل في الأدب المصري".. رحلت صاحبة المعارك الكبرى، دفاعا عن مصر: أرضها وشعبها وتاريخها وآثارها. عريقة، عراقة صعيد مصر الذي وهبها إيانا.. أصيلة، أصالة بلدة مغاغة بمحافظة المنيا حيث ولدت عام 1926، ثم حفظت القرآن الكريم، وتلقت تعليمها الأوليّ قبل أن تنتقل إلى المدرسة الثانوية الداخلية بضاحية حلوان، وتتخرج منها لتكون أول فتاة مصرية تحقق المركز الأول على مستوى الجمهورية في امتحانات "التوجيهية".. ثم حصلت على الماجستير عام 1952 في أدب عبد القادر المازني، وهي أول رسالة علمية عن الأدب الحديث تناقشها الجامعات المصرية. توثقت علاقة نعمات فؤاد بكبار أدباء عصرها، وعلى رأسهم الأستاذ أحمد حسن الزيات الذي كان يعتبرها امتدادا له، وكذلك بالأستاذ عباس محمود العقاد الذي وضعت عنه كتابها "الجمال والحرية والشخصية الإنسانية في أدب العقاد".. وقد توالى الإنتاج الأدبي للراحلة الكبيرة منذ عقد الخمسينات، وهو إنتاج اتسم بالغزارة في حجمه، وبالعمق والصدق في مضمونه. ومن أشهر أعمال الراحلة الكبيرة كتابها عن سيدة الغناء العربي بعنوان "أم كلثوم وعصر من الفن"، وهو مرجع مهم جدا في تاريخ كوكب الشرق، وتقول عنه صاحبته: "عند انتهائي من كتابة هذا المؤلف الذي لم أكتبه سيرة ذاتية فقط ولكن تأريخا لعصر شامل، ذهبت إلي الست أم كلثوم كي أعرضه عليها قبل طبعه، فقرأته ونال إعجابها ولكنها تحفظت علي بعض نقاط وردت به، أذكر منها ما كتبته عن مكانتها وقت أن كانت منيرة المهدية سلطانة الطرب، احتكمنا لشاعر الشباب أحمد رامي فجاء في صفي". ومن أعمالها المهمة أيضا كتاب "شخصية مصر"، الذي انتهت من إعداده، ثم بلغها أن الدكتور جمال حمدان قد أرسل كتابا إلى المطبعة بنفس العنوان، فاتصلت به مصرة على تغيير عنوان كتابها، لكن العالم الكبير قال لها: اتركيه يا نعمات.. فأنت كتبت عن التاريخ وأنا كتبت عن الجغرافيا، وسأضع تحت عنوان كتابي عبارة "دراسة في عبقرية المكان.. أما كتابها "رسالة إلى ابنتي" فقد ترجم إلى عدة لغات لاسيما بعد أن منحته اليونيسكو عام 1962 جائزة أفضل كتاب في العام عن قضية الأمومة. كانت الراحلة العظيمة تملك قلما حادا، توجهه كسلاح فتاك ضد كل انتهاك لحضارة مصر وتاريخها وأرضها.. وقد انتصرت في كل معاركها، وخرجت مرفوعة الرأس، محاطة بحب المصريين وتقديرهم، ومن أهم معاركها تصديها لقضية "هضبة الأهرام" عام 1977، حينما قررت السلطة بيع عشرة آلاف فدان بجوار أهرام الجيزة لمستثمر كندي، لإقامة مدينة سياحية وملاعب جولف ومبان تغير معالم المنطقة الأثرية الأهم في العالم، مقابل 2 مليون دولار.. وأطلقت نعمات هجومها الأول بمقال في صحيفة الأهرام تحت عنوان: "مدينة سياحية عند الهرم، رفضت فيه الحفر والدك وتوصيل أنابيب المياه والصرف إلى جوار الأهرام الخالدة، وأعلنتها مدوية: "إن أصحاب الأموال غير أصحاب الحضارة". تلقت الأديبة الكبيرة اتصالا من رئيس مجلس إدارة الشركة المنفذة للمشروع، وحاول إقناعها بما تراه جريمة، فلما أصرت على موقفها اتخذ سبيلا آخر، يهددها تارة بإخبارها بأسماء كبار المسؤولين الذين حجزوا بالفعل فيلات في المشروع، ويستميلها تارة بعرض منحها فيلا مقابل أن تصمت.. وكان الرد في اليوم التالي عبر صحيفة الأخبار بمقال عنوانه "ارفعوا أيديكم عن هضبة الأهرام".. واضطرت وزارة السياحة لإصدار بيان ترد به على سلسلة المقالات "الفؤادية" التي لا تكاد تنقطع، وفندت الراحلة الشجاعة بيان الوزارة، واتهمتها بخداع الشعب، وتجاهل البرلمان، وانحاز الرأي العام لموقفها، واضطر الرئيس السادات إلى إصدار قرار بوقف المشروع. ومن معارك الراحلة التي لا تنسى، تصديها لمحاولة دفن نفايات نووية في مصر، بعدما وقعت الحكومتين المصرية والنمساوية بروتوكولا عام 1978، يقضي باستقبال أول شاحنة تحمل نفايات نووية لدفنها بالصحراء الشرقية، وعندما لم تجد نعمات استجابة من بلادها، خاطبت السلطات النمساوية، ثم فوجئت ذات يوم بزيارة سفير النمسا في القاهرة إلى منزلها، مقدما اعتذاره، ومؤكدا على إلغاء البروتوكول. استمرت الكاتبة المجاهدة في خوض معاركها، فناضلت بقلمها ضد هدم قبة الحسين، وقاومت التعديات الداخلية على نهر النيل، وسفر الآثار المصرية الفريدة إلى الخارج، ومشروع باب العزب المتمثل في تحويل جزء من القلعة إلى مشروع استثماري، وشنت حملة لاسترداد الآثار المصرية التي استولت عليها إسرائيل أثناء احتلالها لسيناء، ودخلت في مواجهات شرسة مع فاروق حسني، وزير الثقافة، في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، ومنعت كتبها من الطباعة، وتعرضت أحيانا للمصادرة. شغلت الراحلة الكبيرة منصب أستاذ الدراسات العليا لمادة فلسفة الحضارة بجامعة حلوان، ودرست في جامعات الأزهر واسطنبول ونيويورك وجورج تاون وطرابلس وأكاديمية الفنون، كما كانت عضوا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، واللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية، ورئيسا للجمعية العلمية للمحافظة على التراث والآثار التاريخية. تركت نعمات أحمد فؤاد نحو 60 كتابا، لكن "عروس النيل" أوصت بإهداء مكتبتها العظيمة التي كونتها مع زوجها ورفيق دربها الأستاذ محمد طاهر وتضم أكثر من 40 ألف مجلد، إلى مكتبة الإسكندرية.