أفرزت الحرب العالمية الثانية نظاماً دولياً عرف بنظام القطبية الثنائية الذي تزعمه معسكرين متجابهين ومتناحرين، المعسكر الغربي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، وقد اتسم هذا النظام بدوران أطراف المجتمع الدولي في فلك أحد هذين القطبين الكبيرين. وبعد مرور فترة من الزمن، وتحديداً في بداية التسعينات من القرن الماضي، انفرط عقد الاتحاد السوفيتي، وتمزقت لُحمته، وتناثرت صفوفه، بسبب مجموعة من العوامل والأسباب، التي اختلف الشراح في تعدادها وترتيبها من حيث الأولوية، وقد كان لهذه الظاهرة أثاراً بعيدة المدى، حيث أعقب ذلك ظهور نظام عالمي جديد، تتزعمه الكتلة الغربية بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهذا ما جعل البشرية تشهد منعرجًا حاسمًا في تاريخها. فعلى إثر سقوط الأيدولوجية الشيوعية في الاتحاد السوفيتي، وانهيار هذا الاتحاد وتفككه، والعالم يشهد حالة من حالات التحول النادرة، التي تحدث في تاريخ البشرية كل حينٍ من الدهر، وقد بدأت معالم هذه الحالة تنكشف في سماء العلاقات الدولية من خلال قطب واحد يهيمن على الساحة الدولية، وهو الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي انفردت بقيادة النظام الدولي، واتجهت نحو إعادة صياغة العلاقات الدولية من جديد، على نحوٍ فرض الكثير من الغموض والتساؤلات التي تتعلق بالشرعية الدولية وبمدى الاحترام والامتثال لقواعد وأحكام القانون الدولي، التي تتعارض مع المصالح والأهداف الأمريكية. ولكن سرعان ما اتضحت الحقيقة، وتلاشت الشكوك والريب، وبات يعرف بما لا يدع مجالاً للشك أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تسعى إلى فرض هيمنتها ونفوذها لإعادة تشكيل قواعد ومبادئ القانون الدولي الحاكمة، على النحو الذي يتوافق مع مصالحها وأهدافها وضمان انفرادها بالسيطرة على النظام الدولي وإحكام قبضتها عليه، بحيث يغدو القانون الدولي انعكاساً مباشراً لمشيئتها، وتعبيراً عن إراداتها، ممهدة الطريق بذلك أمام دعاوى الأمن القومي الأمريكي لكي تسمو فوق قدسية وسمو القواعد القانونية الدولية، وفي مقدمتها الأمن الجماعي الدولي ومنظومته التي أرسى أحكامها ومبادئها ميثاق الأممالمتحدة. وعطفاً على ما سبق، فإن النظام الدولي الجديد الذي تتحكم في زمامه الولاياتالمتحدةالأمريكية، لا يُعنى بإقامة نظام دولي يقوم على أسس وقواعد ومبادئ القانون الدولي، بل هو تكريس لسياسة القوة والهيمنة على الدول النامية والدول الضعيفة، وفي سبيل ذلك فهي تستخدم الأممالمتحدة لشرعنة العديد من السلوكيات والتصرفات والجرائم والانتهاكات التي تخالف أحكام ومبادئ القانون الدولي، بحيث تتم هذه الأعمال غير المشروعة – التي لا تكاد تخلو من استخدام القوة والعدوان والعنف – تحت غطاء وسياج منيع من الشرعية الدولية، خدمة للسياسة الأمريكية. وهذا الأمر يدعونا للقول: إن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تتوانى في بسط سيطرتها ونفوذها على منظمة الأممالمتحدة لإضعافها وإخضاعها، وجعلها أداة طيعة لينة في يدها تحركها كيفما تشاء، لضمان تحويلها إلى أداة قوية تسهر على خدمة سياستها الخارجية، وتساهم في توطيد هيمنتها وسطوتها، بغية إضفاء الشرعية على تصرفاتها وأعمالها غير المشروعة، عن طريق الاستتار والتواري خلف قرارات هذه المنظمة. وإقراراً واعترافاً بما بتنا نلاقيه ونشاهده على الساحة الدولية، فيمكننا أن نذكر دون خشية التردي في الإسراف في القول: إن ما فعلته ولازالت تفعله الولاياتالمتحدةالأمريكية وغيرها من الدول الكبرى ليس بدعاً أو حدثاً جديداً، بل هو تعبير عن سياسة القوة والمصالح والأيدولوجيات التي تفرض نهجها وقيمها ومصالحها على منظومة العدالة والقواعد القانونية الحاكمة، أو التي ينبغي أن تسود بالفعل. وبالتالي فليس صحيحاً ما قد يبدو لأول وهلة، أن قواعد القانون الدولي بسبب هيمنة الدول الكبرى، تأتي مردافاً للعدل والحق أو الشرعية الدولية أو معبرةً عن هذه المفاهيم والقيم والشعارات البراقة، لأن القانون في هذه الحالة يفرغ من مضمونه، على النحو الذي يفرض عليه أن يكون مجرد خادم لمصالح وأهداف الدول القوية التي لن تتردد لحظة في انتهاك القانون، والاعتداء على حقوق الدول الصغرى وتعريضها للخطر. ومن هذا المنطلق فإن من يمتلك القوة أو الهيمنة وينفرد بها، لن يكون معنياً بأحكام وقواعد القانون الدولي الراسخة، التي تتعلق بالأخلاق والشرعية الدولية والعدالة والإنصاف، لأنه إن انشغل بهذا الأمر فاتته فرصة التسيد، وقد يصبح تابعاً وليس متبوعاً، وهذا ما يدركه جيداً كل طغاة وجبابرة البشرية. وفي هذا الصدد يذكر هانز مورجانثو أحد أساتذة العلاقات الدولية بالولاياتالمتحدةالأمريكية قائلاً: "في الحقل الدولي يكون الخاضعون للقانون أنفسهم هم الذين يشرّعون القانون، وهم الذين يمثلون السلطة العليا لتفسيره، وتبيان المعنى المحدد لما يسنونه من تشريعات، ومن الطبيعي أن يفسر هؤلاء القانون الدولي، وأن يطبقوا نصوصه على ضوء مفاهيمهم الخاصة والمتباينة للمصلحة القومية، ومن الطبيعي أيضاً أن يجندوا هذه القوانين في تأييد سياستهم الدولية الخاصة، وأن يحطموا من هذا الطريق ما فيها من سلطان زاجر يطبق على الجميع". وسوف نكمل الحديث حول هذه الموضوع في المقال القادم إن شاء الله تعالى.