في عام 1882م كانت قيادة مصر بيد الخديوي توفيق أحد حكام العائلة العلوية، ومما لا يمكن إنكاره ما أثمرت به هذه الأسرة لمصر من خيرات وفضائل، وما أنبتته في مصر من نبت خبيث كاد يذهب بكل ثمرة طيبة. كان هذا حال الخديوي توفيق وما أحدثع في فترة حكمه، كما هو مؤرخ في كتب التاريخ التي تناولت هذه الفترة، إلا أننا ستنتناول جانبًا آخر يهمنا في هذه المرحلة ولو جُزئيًّا. بدء الخديوي توفيق حكمه بمولاته للأعداء، فانتفضت ثائرة المصلحين من النخبة، رافضةً ذلك. واجتمع المصلحون من النخبة الثائرة حول أحمد عرابي باشا، وكان الأزهر إذ ذاك له مكانة كبيرة في نفوس الناس، ولشيخه كذلك، فرفع الثوار لشيخ الأزهر محمد المهدي العباسي شكواهم من سياسات الخديوي توفيق لينظر فيها. الشيخ العباسي يرفض خلع الخديوي توفيق استفتاه المشاركون في اجتماع "الجمعية العمومية" المنعقد بتاريخ [23 يوليو 1882م]، بمقرّ دار وزارة الداخلية، وبدعوة من أحمد عرابي للرد على قرار الخديوي توفيق بعزله؛ لرفضه سياساته المنحازة للأجانب، وكان الردّ الصادم للمُجتمعين هو الرفض… رفض شيخ الأزهر خروج عرابي على الخديو، واعتبر الثوررة "هُوجَة". وكان لذلك الرفض دويّ في أوساط النخبة، وكذا في الشارع؛ إذ جرت العادة أن يستجيب شيخ الأزهر لمطالب الناس في استصداره ما يُحقّق مصالحهم، والحديث بما يدفع الضرر عنهم، خاصة إذا ما انضمّ إليهم أهل النظر في الأمور. شيوخ الأزهر يتهمون توفيق بالخيانة فاجتمع علماء من الأزهر على رأسهم الشيخ شمس الدين الإنبابي وكبار علماء الأزهر ومنهم الشيخ محمد عليش، والشيخ حسن العدوى، والشيخ محمد أبو العلا الحلفاوي، ونقيب الأشراف عبد الباقي البكري وأصدروا فتوى نصّها أن: "الخديو توفيق قد مرق من الدين مروق السهم من الرمية لخيانته لدينه ووطنه وانحيازه لعدو بلاده". وتلا الفتوى على الحضور الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وكان لصدور هذه الفتوى دويًّا كدويّ النحل، فأثارت جدلًا واسعًا، وانتشرت انتشارًا كبيرًا حتى وصلت الآستانة مقرّ الخليفة، وأراد المشايخ إمضاء شيخ الأزهر محمد المهدي العباسي على هذه الفتوى، فرفض وامتنع عن التوقيع على عزْل الخديوي توفيق وأبى إلا الوقوف بجانب السلطة ومحاباتها. الإنبابي الشافعي يتولى مشيخة الأزهر بأمر الثوار وهنا قرر العرابيُّون المطالبة بإزاحته عن منصبه، فتمّ لهم ما أرادوا، فشكلت لجنة للتقصي والتحقيق انتهت إلى أن الشيخ العباسي كان حنفي المذهب، ومن المعروف أن مشيخة الأزهر كانت دائما بيد علماء الشافعية ،وبناء على هذا أصدر الخديوي توفيق قرارًا بفصل الشيخ العباسي من مشيخة الأزهر، وأسندها إلى الشيخ محمد الإنبابي الشافعي. واستمرّ الحال هكذا حتى أُحبطتِ الثورة فأعاده الخديوي توفيق، ليجمع له بجانب منصب المشيخة منصب الإفتاء، فهو أوّل من جمع بين المنصبين، وكرمته دولة الخلافة العثمانية، فمنحه الباب العالي كسوة التشريف من الدرجة الأولى. توفيق ينفي محمد عبده وشيوخ الأزهر الخارجين عليه وقاد الخديوي في إِثر ذلك حملة انتقامية من علماء الأزهر المؤيدين للثورة، فتم تقديم عددا كبيرا منهم للمحاكمة، وفي مقدمتهم الشيخ محمد عبده الذي حكم عليه بالنفي أربع سنوات إلى بيروت، وأما الشيخ محمد عليش فقد أُخذ من داره مريضا ونقل إلى المستشفى وتوفي بها، وأشيع أنه دُسّ له السم في الدواء، وحين دُعيَ الشيخ حسن العدوي إلى المحاكمة، قال في جرأة إنهم إذا جاءوه الآن بفتوى أن توفيقًا مستحق للعزل فسوف يوقعها، فحُكم عليه بتجريده من جميع رتبه وامتيازاته، كما نفى الشيخ محمد عبد الجواد القاياتي وأخوه الشيخ أحمد شيخ رواق الفشنية إلى بيروت، ونفى الشيخ محمد الهجرسي إلى مكةالمكرمة.