ليست الثورة المشار إليها فى المقال الحالى هى ثورة يناير 2011، بل هى الثورة العرابية عام 1882، وليس الحديث عنها الآن استغراق في الماضي، وإنما هو مجرد استدعاء له من أجل فهم الحاضر، وكيفية التحرك نحو المستقبل ونوعيته المنشودة. فمما يتردد على ألسنة وأقلام بعض الفئات في مجتمعنا المعاصر، هو رفع راية التحذير من تديين السياسة، خوفًا من التوجيه الخاطئ للسياسة لتصبح طريق جهنم إلى الاستبداد. واستقراء الكثير من آيات القرآن الكريم، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يؤكدان دائمًا الدور المجتمعي للدين، على طريق النهوض بالأمة، وتعمير الأرض، وتمكن الإنسان من التحرر حتى يستطيع أن يفعل هذا وذاك، لأن الإنسان المقهور، يستحيل عليه بناء أمة وتعمير أرض. فماذا عندما تكون هناك أمثلة عكسية؟ هنا نستحضر المقولة الشهيرة التى نستند إليها كثيرًا: لا تحاكموا الحق بالرجال، بل حاكموا الرجال بالحق، فالمبادئ العظمى، لا تتحقق بذاتها، وإنما تتحق عن طريق "بشر"، إن كان خيرًا فخيرًا وإن كان شرًا فشرًا، وبالتالي تصبح المشكلة هي في هذا وذاك من الناس، وبالتالي فالأمر هنا مثله مثل كل المواقع، وكافة المجالات، فدستور 1971، كان متخمًا بكثير مما يعزز الحرية والديمقراطية، لكن من تولوا الأمور، قادونا إلى أسوأ الأحوال، وأشرّ النتائج. وفي التعليم، نضع العظيم من الأهداف، ونؤسس الرائع من المبادئ والأفكار، ثم إذا بهذا وذاك ينقلب إلى عكسه على يد مدرس أو مدير أو وزير؟ ويكون الحل، لا فى استبعاد ما نتفق عليه من مبادئ وتعاليم، وإنما في وضع القيود والشروط التى تشير إلى حسن الاختيار، تُقيد من يتولى الأمر، وسبل محاسبته الدقيقة، ويسر تغييره. هذا بالنسبة لمن يتولى السلطة، أما بالنسبة لمن يكون مسئولاً عن القيادة الدينية، فلا يكون اختياره وتعيينه بيد الحاكم، بل بيد الصفوة من علماء الدين، الذين يُكونون الهيئة المشكلة منهم، لأن الإنسان جُبل على الولاء لمن ولاّه. .. وهكذا لا تكون المبادئ العظيمة كافية وحدها لضمان حسن المسير، ورشد النتائج.. ففى أثناء احتدام أحداث الثورة العرابية عام 1882، أفتى الشيخ "عليش"، أحد علماء الأزهر بأنه لا يصح أن يكون الخديوي توفيق حاكمًا للمسلمين بعد أن باع مصر للأجانب باتباعه ما يشير به القنصلان الإنجليزى والفرنسى، ولذلك وجب عزله، وأن مصر تؤيد عرابي: الأقباط والمسلمين على السواء. وقد ورد نص الاستفتاء بعزل الخديوي في محاضر التحقيق مع عرابي، بعد فشل الثورة، إذ جاء فيه: "ما القول في حاكم ولى من طرف سلطان المسلمين على أن يعدل في الناس ويقضي بأحكام الله، فنقض العهد وأحدث الفتن بين المسلمين، وشق عصاهم، ثم انتهى به الأمر إلى أن اختار ولاية غير المؤمنين على ولاية المؤمنين، وطلب من الأمم الخارجة عن الدين القويم أن ينفذوا قوتهم في بلاد حكومته الإسلامية، وأمر رعاياه بأن يذلوا ويخضعوا لتلك القوة الأجنبية، وبذل عنايته في الموافقة عنها، ولما دعاه المؤمنون للرجوع عن ذلك أبى وامتنع وأصر على الخروج عن طاعة السلطان، والمروق من الشريعة، فهل يجوز شرعًا أن يبقى هذا الحاكم حاكمًا حتى يمكن قوة الأجانب من السلطة فى البلاد الإسلامية، أو يتعين في هذه الحالة عزله وإقامة بدل له يحافظ على الشرع ويدافع عنه؟ أفيدوا الجواب"!! ولما بدأ الغزو الإنجليزي لمصر في يوليو سنة 1882، أسفر الخديوى توفيق عن وجهه الخائن بالارتماء فى أحضان الغزاة، كوّن الثوار جمعية شعبية ضخمة تتولى تصريف أمور البلاد، وعقدت اجتماعًا يوم 22 يوليو حضره نحو الخمسمائة شخص، ويكتب في هذا الاجتماع فتوى الشيخ عليش والشيخ العدوي والشيخ محمد أبو العلا الحلفاوي بمروق الخديوي، وتقرر في هذا الاجتماع أيضًا رفض قرار الخديوي بعزل عرابي، وضرورة استمرار الدفاع ضد الإنجليز، وكان من الموقعين على هذه القرارات من شيوخ الأزهر: الشيخ محمد الإنبابي شيخ الجامع الأزهر- الشيخ حسن العدوي، مفتي المالكية- الشيخ عبد الهادى الإنباري- الشيخ محمد الأشموني- الشيخ خليل العزازي- الشيخ عبد القادر الرافعي عضو المحكمة الشرعية- الشيخ عبد القادر الدلبشاني، عضو المحكمة الشرعية- الشيخ عبد الله الدرستاني، مفتى ضبط مصر، وأعضاء المشيخة. مفتي الأوقاف – الشيخ مسعود النابلسي- الشيخ محمد القلماوي – الشيخ زين المرصفي- الشيخ حسين المرصفي – الشيخ أحمد الخشاب قاضي مديرية الجيزة- الشيخ أبو العلا الخلفاوي – الشيخ سليم عمر القلعاوي- السيد عبد الباقي البكري نقيب الأشراف – الشيخ عثمان مدوخ. وانطلق عدد غير قليل من علماء الأزهر، في أماكن مختلفة يدعون ويحرضون، ويخطبون دعمًا للثورة، وكان مما قاله الشيخ أحمد عبد الغني في قصيدة بهذا الشأن: لعمري ليس ذا وقت التصابي ولا وقت السماع على الشراب ولكن ذا زمان الجد وافي وذا وقت الفتوة والشباب ووقت فيه الاستعداد فرض لتنفيذ الأوامر من عرابي أما الشيخ على المليجي فقد قال في خطبة له: "لقد مرت بنا في الزمن السالف أيام غير صافية العيش للمسلم، وما ذاك إلا لعدم الحمية الإسلامية في ميادين حظهم الدنيوي وعن الدين غائلين، وقد ظهرت الآن البشائر بعز المسلمين وسطوتهم حيث اعتدل حكام الوقت أيدهم الله بالأخذ بأسباب قوة الدين ورد ما ضاع فى شوكتهم، باذلين الهمة في التوصل إلى ما يبعد الأمة عن التشرد لما يكونون به آمنين..." ووقف الشيخ محمد أبو الفضل في الخطبة التي ألقاها في جامع الحنفي بالقاهرة: "قد تميز الغث من السمين، واستبان أن الإنجليز جاءوا محاربين يريدون – لا أمكنهم الله – سلب الأموال وهتك الحرم، وقد جاءوا بمكر وخداع يصطادون بشباكهم الأوطان من غير قتال أو دفاع، كما هو ديدنهم القبيح في كل إقليم، فيقظ لذلك العقلاء والشجعان وذبوا عن الأعراض والأوطان". ويبلغ الشيخ حسن العدوي الذروة في التدين والوطنية، أثناء التحقيق معه بعد فشل الثورة، فقد وُجه إليه سؤال على الوجه التالي: " س: علم المجلس(مجلس التحقيق) أنك أفتيت بعزل الخديوي، فهل هذا حقيقي أم لا؟ ج: لم تصدر مني فتوى في ذلك، ولم أُسأل فى هذه المادة، ومع ذلك فإذا جئتموني الآن بمنشور فيه هذه الفتوي، فإني أوقعه.. وما في وسعكم وأنتم مسلمون أن تنكروا أن الخديوي توفيق مستحق العزل لأنه خرج عن الدين والوطن.."!! ذلك موقف نبرزه لهؤلاء الذين يزعمون أن صاحب المرجعية الإسلامية، لا يحتل الوطن لديه مكانة عالية، وهذا الذي قاله الشيخ العدوي، يقول به كثيرون، وإن كنا لا ننكر أن قلة تقول بغير ذلك، فتجيء عين السخط لتصطاد، وتزعم التعميم. كذلك فلابد أن نقرأ مثل هذه الشجاعة منقطعة النظير، لعالم دين حق، واقع في الأسر، وجلادوه واقفون على رأسه، والثورة فشلت، والخديوي العميل وقوات الاحتلال أصبحت متمكنة من البلاد، لكن كل هذا لا يحول بينه وبين الوقوف موقف العالم المسلم الوطني الواعي، حتى ولو كانت يده قابضة على جمر متقد، لا يلسع فقط بل يحرق، وربما يميت! لكن، هل كان كل المشايخ على مثل هذه الموقف الشجاع، الوطني الإسلامي؟ كلّا.. فقد كان هناك متخاذلون، مرتعدون، متعاونون مع قوة الاستباداد الداخلي، والاستعمار الخارجي، وهو ما لابد من أن نتناوله في مقال تالٍ بإذن الله.