عن قصور الثقافة صدر مؤخرا كتاب "حكايات.. عبدالله النديم" للمؤلف د. عبد المنعم الجميعي الذي يقع في 191 صفحة من القطع الصغير. يتناول الكتاب قصة عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية بزعامة أحمد عرابي، والذي ذاق الفقر والحرمان كعامة الشعب المصري. وكان ميالا بفطرته للمناوشة سواء في عالم الفكاهة أو العمل حتى توفى في أكتوبر عام 1896 عن عمر يناهز الرابعة والخمسين. ولد النديم في الإسكندرية عام 1843، ونشأ في أسرة كادحة؛ حيث كان والده خبازا، وتربى في حارة من حي "الجمرك" القريب من ميناء الإسكندرية. أرسله والده إلى الكتاب لتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم قبل أن يبلغ التاسعة من عمره. ارتاد المقاهي والمنتديات والمجالس الأدبية التي كانت تعقد في بيوت الأثرياء. وكان مشهورا بإنشاده للشعر ودبجه للرسائل. تعلم صناعة التلغراف ليكتسب رزقه قبل بلوغه السابعة عشر من عمره؛ ولكفاءته نقل إلى مكتب القصر العالي وتعرف على حياة القصور. واتضحت رؤيته السياسية والوطنية بعد أن اتصل بجمال الدين الأفغاني الذي دربه عندما لاحظ نبوغه، وأعطاه من وقته واهتمامه الكثير لثقفته أنه سيكون الخطيب المؤثر في عواطف الجماهير. وبعد أن فصل من عمله وتعرف على الشيخ أبو سعدة في المنصورة عمدة "بدواي" دعاه ليعلم أولاده القراءة والكتاب والدين. ثم اختلف معه وافتتح له أحد محبي الأدب وأعيان التجار بالمنصورة حانوتا لبيع الخردوات، لكن نفس النديم الثائرة لم تجد استعدادا للعمل بالتجارة فأهملها، وأخذ يرحل من بلد لآخر حتى عرف شاهين باشا، وأحد رجال الحاشية الخديوية الذي عينه وكيلا لدائرته فتردد إلى القاهرة وبدأ التحدث عن التخلص من الظلم الاجتماعي والحكم الفردي والتدخل الأجنبي والاستبداد الواقع على أعناق المصريين. انضم النديم لجمعية سرية بالإسكندرية تهدف إلى قلب نظام حكم الخديوي إسماعيل وهي "جمعية مصر الفتاة"، وتركها، ثم أسس جمعية علنية تحت أسم "الجمعية الخيرية الإسلامية"بمساندة بعض أصدقائه، زاول فيها نشاطه السياسي العلني بجانب نشاط الجمعية الاجتماعي والثقافي. ثم تقابل مع رجال الجيش الذين كانوا يجوبون القرى والمدن تمهيدا لنشر دعوتهم. وانضم النديم للعرابيين سرا بعد أن غزا التدخل الأجنبي كل مصالح الدولة ولم ينج من ذلك سوى الجيش. وفشل رياض باشا في نفيه خارج مصر حيث اعترضه علي فهمي قائد حرس الخديوي توفيق، وانتقل النديم ليلعب دور الصحفي والخطيب السياسي الناطق بلسان الثوار، وقابل عرابي الذي اتخذه مستشارا له، وكانت لمقالاته أكبر أثر في جذب الأهالي إلى حركة العسكريين. كان التعصب العرقي واضحا في صفوف الجيش؛ حيث تمنح الوظائف المهمة والرتب والنياشين والمكافئات للشراكسة والأتراك، وحرم المصريين من هذه المزايا، وعاملهم عثمان رفقي ناظر الجهادية بالذل والاحتقار، وحرم أغلبهم من خدمة الوطن؛ فأشار النديم على عرابي طبع منشور يطلب من الشعب تفويضه للمطالبة بحقوقهم، ووزع النديم المنشور على الأهالي، وعلمهم فوائد الحرية ومعاني الدستور، وحصل منهم على التوقيعات. وكان للنديم دور كبير في مظاهرة عابدين حيث وكله عرابي بحماية المؤخرة من أن يصيبها الضعف، ونجح الجيش في المطالبة بحقوق الأمة، وعزل الخديوي ووزارة رياض، وعين شريف باشا وأعلن الحياة الدستورية. ثم شجع النديم تأسيس جمعية "الشبان" بالإسكندرية التي كانت تساند الثورة وتؤيدها، وتوقف نشاطها بعد هزيمة الثورة وقبض على رئيسها وأعضاءها. وكان للنديم دورا كبيرا أيضا في مخاطبة وحث الناس لمساندة عرابي ورجال الجهادية في المعارك بين العرابيين والإنجليز، ونجح في حث الناس على توقيف أوامر الخديوي وعدم تنفيذها وإعلان انضمامه للإنجليز، والاستعداد للقتال، كما خاطب مشايخ الأزهر حتى أفتوا بتكفير الخديوي، وجاب مدن البلاد وقراها لحفز همم الناس على مواجهة أعداء الوطن والدين. وكان النديم يكتب أخبار الحرب في صحيفته "الطائف"، ويهاجم الخديوي والاحتلال. وبعد هزيمة العرابيين في عام 1882 اختفى النديم ولم يسلم نفسه كعرابي وبعض زملاءه، وأعلنت الحكومة مكافأة 1000 جنية لمن يقبض عليه، وهددت بإعدام من يؤويه. قصد النديم دار أحد أصدقائه في القناطر الخيرية وأقام بها عشرة أيام، وتنكر في زي مشايخ الطرق الصوفية، وانتقل لميت غمر، ثم ميت مصاري، وبعدها إلى المنصورة، وسافر إلى منية الغرقى، وكان يعزم اللجوء إلى بلاد الشام لكن أبعده الشيخ شحاتة القصبي وسعيد الأزهري عن عيون الحكومة، ثم أقام في بيت الشيخ الهمشري ثلاثة سنوات، ووقتها ألف كتابه "كان ويكون" الذي كان على هيئة أسئلة وأجوبة في المشكلات الدينية والخلافات السياسية بين الشرق والغرب على أن يقدم صديق فرنسي له أسئلة ويجيب عليها النديم بسرد تاريخ مصر. عندما فشلت الحكومة في إيجاد النديم حكمت عليه غيابيا بالنفي المؤبد، ونسجت حوله الشائعات بأنه قبض عليه وقتل خمقا في دمنهور، وأخرى بأنه انتحر يائسا. كما نسج الوطنيون له قصصا بطولية بأنه استشهد في معركة التل الكبير وغيرها. انتقل النديم بعد وفاة الشيخ الذي يخبئه بين قرى الغربية، واستقر بقرية "الكوم الطويل" عامين على أنه عالم من الحجاز، وذهب بعد ذلك للمحلة الكبرى، وإلى عدة قرى أخرى. وأتم في مدة اختفائه عشرين مؤلفا، ثم تم القبض عليه في "الجميزة" ليلة السبت 3 أكتوبر 1891، كما تم القبض على كل من آواه . وتقرر تبعيد النديم إلى بر الشام. ثم أصدر الخديوي عباس الثاني عفوه عن عبد الله النديم على ألا يعمل في السياسة، وعاد لمصر في 9 مايو 1892 ، واستقر في القاهرة. استطاع عبدالفتاح شقيق النديم الحصول على تصريح لإصدار مجلة "الأستاذ"، وتوطدت العلاقة بين الخديوي والنديم في أعقاب الأزمة الوزارية، ثم طالبت سلطات الاحتلال بنفي النديم وتخلى الخديوي عنه، واتخذ من يافا مقرا لنفيه للمرة الثانية، ورتبت له الحكومة معاشا شهريا طالما مقيما خارج البلاد. وكان من تلاميذ النديم مصطفى كامل الذي اقتبس بعض أساليبه، وكان له أثر في تكوينه الصحافي والخطابي