منذ ما يزيد عن مائة عام، كانت للديار المصرية، مفتيًا عامًّا كعامة المُفتين يبتّ فيما يطرأ للناس من حوادث، ويُرجع إليه فيما يُستصعب من النوازل، كان هذا المفتي هو الأستاذ الإمام محمد عبده، الذي حمل على عاتقه، وكذا تلاميذه من بعده، مهمة التجديد والإصلاح، فيما عُرف بعد ذلك بمدرسة التجديد والإصلاح. وفي أثناء فترة توليه منصب مفتي الديار المصرية [1899م-1905م] عُرضت عليه مجموعة من الفتاوى أبدى في كل منها رأيا بما يناسبها، وبعض تلك الفتاوى كانت محلًّا للأخذ والردّ والإشكال وما إلى ذلك؛ نظرًا لما كان يحمله الأستاذ الإمام رؤى مجددة. من بين هذه الفتاوى التي ظهرت في تلك الآونة ما عُرف باسم «الفتوى الترنسفالية» وسميت بذلك؛ لأنها وردت من أهل ترنسفال، التي كانت مقاطعة مستعمرة تقع في شمال شرق جنوب أفريقيا، وتمّ اكتشاف الذهب والماس بتلك المنطقة مما أدى إلى قدوم مستوطنين عليها من غير أهلها، وتمّ التمازج شبه الكلّي بينهما، وأدخل ذلك في عقول أهل البلاد عدّة تساؤلات، لم يكن لهم ملاذ؛ للإجابة عليها سوى علماء مصر الأزهر ومفتيها، فأرسلوا أسئلتهم إلى مفتي الديار المصرية، وكان مضمونها: «السؤال الأول: يوجد أفراد في بلاد الترنسفال تلبس البرانيط لقضاء مصالحهم، وعودة الفوائد عليهم،هل يجوز ذلك؟ السؤال الثاني: إن ذبحهم مخالف لأنهم يضربون البقر بالبلط، ويذبحون كذلك من غير تسمية، هل يجوز ذلك؟ السؤال الثالث: إن الشافعية يصلون خلف الحنفية دون تسمية، ويصلون خلفهم العيدين، ومن المعلوم أن هناك خلافًا بين الشافعية والحنفية في فرضية التسمية، وفي تكبيرات العيدين. فهل تجوز صلاة كل خلف الآخر؟» فأجابهم الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية محمد عبده بقوله: [أنقله بنصّه] «1 أما لبس البرنيطة إذا لم يقصد فاعله الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره فلا يعد مكفرًا، وإذا كان اللبس لحاجة من الحاجات أو دفع مكروها وتيسير مصلحة لم يكره كذلك لزوال معنى التشبه بالمرة. 2 وأما الذبائح فالذي أراه أن يأخذ المسلمون في تلك الأطراف بنص كتاب اللّه تعالى فيقوله {وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم} [المائدة: 5]،وأن يعولوا على ماقاله الإمام الجليل أبو بكر العربي المالكي من أن المدار على أن يكون ما يذبح مأكول أهل الكتاب قسيسهم وعامتهم ويعدّ طعاما لهم كافة. فمتى كانت العادة عندهم إزهاق روح الحيوان بأي طريقة كانت وكان يأكل منه بعد الذبح رؤساء دينهم ساغ للمسلم أكله؛ لأنهيق الله طعام أهل الكتاب ولقد كان النصارى في زمن النبي عليه الصلاة والسلام على مثل حالهم اليوم، خصوصًا ونصارى الترنسفال من أشد النصارى تعصبًا في دينهم وتمسكا بكتبهم الدينية، فكل ما يكون من الذبيحة يعد طعام أهل الكتاب متى كان الذبح جاريا على عادتهم المسلمة عند رؤساء دينهم ومجىء الآية الكريمة { اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم} بعد آية تحريم الميتة وما أهل لغير اللّه به بمنزلة دفع ما يتوهم من تحريم طعام أهل الكتاب؛لأنهم يعتقدون بألوهية عيسى وكانوا كذلك كافة في عهده عليه الصلاة والسلام إلا من أسلم منهم، ولفظ أهل الكتاب مطلق لا يصح أن يحُمل على هذا القليل النادر، فإذن تكون الآية كالصريحة في حل طعامهم مطلقا، متى كانوا يعتقدونه حلّا في دينهم دفعا للحرج في معاشرتهم ومعاملتهم. 3 وأما صلاة الشافعي خلف الحنفي فلا ريب عندي في صحتها، ما دامت صلاة الحنفي صحيحة على مذهبه، فإن دين الإسلام واحد، وعلى الشافعي المأموم أن يعرف أن أمامه مسلم صحيح الصلاة بدون تعصب منه لإمامه، ومن طلب غير ذلك فقد عد الإسلام أديانا لا دينا واحدا، وهوم ما لايسوغ لعاقل أن يرمي إليه بين مسلمين قليلي العدد في أرض كل أهلها من غير المسلمين، واللّه أعلم». هذه الفتوى التي أثار ظهورها ضجّة كبيرة في الأوساط الفكرية لدى المسلمين، وقت ظهورها؛ لما حوت من خروج ولو جزئي على المألوف المعهود، من التقليد للمذهب تعصّبًا، إفتاءً وقضاءً، والنظرة في أنّ كل ما يفعله غير المسلم شرّ محض يجب اجتنابه، فكانت الفتوى صادمة لكل هؤلاء، وأحدثت ردّة فعل عنيفة. ولسنا هنا في سبيل التأييد أو المعارضة لهذه الفتوى أو لغيرها.. لكن الأمر المثير للدهشة حقًّ أن مثل هذه الفتوى وإن لاقت رفضًا معيّنًا، فإنها فتحت الباب لما عُرف بعد ذلك ب«فقه الأقليّات» وهو ليس قسيم الفقه العام أو نوع آخر، بل هو اختيارات فقهية في نوازل لقلّة من المسلمين يعيشون في بلاد يكثر فيها غير المسلمين، كما هو الحال الآن في بلاد الغرب، فهؤلاء تختلف الأحكام، أو الفتاوى بالنسبة لهم لاختلاف المكان، ولاختلاف الأحوال، وهذا أحد العوامل الأربعة المؤثرة في تغيّر الفتوى.. كما أسلفنا. فما كان من الشيخ محمد عبده إلا أنه حرّر القول في كل سؤال على حده، فوجد أن الأصل في اللباس هو العادة، وليس جنس لباس مخصوص يلزم منه اتباع الدين الآخر أو الدخول تحت عباءة المخالف (المحتلّ) في ذلك الوقت، فأجازها للمصلحة العائدة من وراءها، وهو مطلب حسن، فمتى لزم العمل بأمر وترتب على ذلك مصلحة "فثمّ شرع الله". وما وجد من أمر الذبيحة، هو الجواز تقليدًا واختيارًا من أقوال المجتهدين لتصحيح عمل المكلّف، فدعاهم للخروج عن مذهب أبي حنيفة أو الشافعي أو غيرهما، مما سيجدوا في إتباعهم في هذه المسألة حرجًا شرعيًّا إلى تقليد إمام كابن العربي، في اجتهاده في ذلك. وكذا في موضوع الصلاة، طالما أن الدين واحد، فالاختيار المذهبي لا يُضعف العلائق وخاصة عند الاجتماع على أمر شُرع في الأصل للوًحدة وليس للتفرق وهو الصلاة.. هذا رأي الإمام. فانبرى لتأييد الأستاذ في ذلك أقلام عدّة وكتبوا رسالة في تأييده أسموها "إرشاد الأمة الإسلامية إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترنسفالية"، سطروا فيها مذهب الإمام وصوابه فيما ذهب إليه. وعلى الجانب الآخر صارت ضجّة كبيرة في أوساط الأزهريين فأخذوا يعيبون على المفتي العام، وعلى تلاميذه ممن أخذوا يمدحون فتواه، ورموهم بكل نقيصة وشنّعوا عليهم، وآكد حجّتهم في ذلك هو التعويل على مبدأ أنه لا يجوز الخروج عن إمام المذهب في أقواله، وأن الخروج عن مذاهب الأئمة الأربعة إفتاءً وقضاءً لهو من العيب الشنيع، ويرون أن أخذ المفتي بمبدأ رفع الحرج أو العمل بالمصلحة المعتبرة، لهو من قلّة الديانة، وسنوا ألسنتهم، وحرر كل هذا في كتاب وخرج باسم "التعاديل الإسلامية في تخطئة حزب الفتاوى الترنسفالية".