(1) كان "سالم" فارع القوم قوي البنية، تبدو عليه علامات الصحة، لكنه فجأة لم يعد قادرا على المشي عدة خطوات من غير أن يسقط على الأرض، وقد أثارت حالته دهشة كبيرة بين الناس في القرية التي ولد وتربى بين أهلها، وظنوا أن مساً من الجن والشياطين قد أصابه، وطافوا به على عدد من المعالجين بالسحر، لكن حالته لم تتحسن، فاتفقوا على اصطحابه لطبيب شهير في المدينة، لكن الطبيب أكد سلامته من الناحية البدنية، فالعضلات قوية، والعظام صلبة، ولا يوجد أي مشكلة تمنعه من المشي، ومع طول الوقت يئس الناس من حالته فاستسلموا للأمر الواقع، حتى كان ذلك اليوم الذي لاحظ فيه طفل صغير أن "سالم" يحرك قدميه بطريقة معكوسة، فهو يرفع قدمه اليمنى عندما يجب أن ينزل بها على الأرض للثبات والحفاظ على التوازن، وهكذا فإن القدمان تكونان في وضع واحد إما ثابتتان على الأرض معاً، فلا ييمكن أن يتحرك، وإما يرفعهما في الهواء معاً فيسقط على الأرض. وهكذا استطاع الطفل الصغير بملاحظته البسيطة أن يعالج مشكلة "سالم"، فيعود إلى المشي بمجرد تنظيم العلاقة بين الثبات والحركة، فالمشكلة لم تكن في القوة، ولا في العضلات، كانت مشكلة ذهنية في العقل، وفي فهم العلاقة بين الثابت والمتغير. (2) هذا المثال البسيط، مجرد مدخل لقضايا فلسفية معقدة، تهتم بدراسة الفوارق بين "الهوية" و"الشوفينية"، بين "الجمود الفكري" و"الثبات على المبدأ" بين "الدوجماتيزم" و"الإيمان بالمعتقدات" "التحرر المطلق"، ويعنيني في هذا المقال مناقشة مفهوم الدوجماتية، وهو في المثال الذي ضربناه حالة سالم عندما يُثَبِّت قدميه الاثنتين معاً على الأرض، صحيح أنه يحافظ على نفسه من السقوط، لكنه فقدانه للحركة الطبيعية يهدد حياته كلها، وهذا هو المفهوم الأخطر الذي يهدد مجتمعنا في العمق، خاصة وأن أي محاولة لإقناع سالم بتغيير هذا الوضع، إلى الوضع البديل، لن تأتي إلا بالسقوط، لأنه يرفع قدميه الاثنتين عن الأرض.! كانط: الاحتكام للعقل رهان ميتافيزيقي (3) غاب البعد الفلسفي والتاريخي لمفهوم الدوجماتية في مجتمعنا، وتحول إلى مجرد سُبة للذم، مثل كلمات كثيرة أخرى نزعت ثوبها التاريخي وحمولتها المعرفية، وتحولت إلى شتائم: انت سوفسطائي .. كفاية تنظير .. قاعد يتفلسف وخلاص… كلام مثقفين.. إلخ، وهذه ليست عيبا ذاتيا قاصراً على العرب، بل هو ايضا من الخلافات الفلسفية المعقدة حتى أن الفيلسوف الألماني الشهير إيمانويل كانط، انتقد بشدة فكرة تصور العالم من خلال العقل في كتابه "نقد العقل الخالص" مؤكدا أن الاحتكام للعقل هو رهان ميتافيزيقي، لأن كل واحد يستطيع أن يسوق الأدلة والأمثلة التي تثبت ما يريده، ثم يستخدم غيره (أو هو أيضا) نفس الأدلة والأمثلة ليثبت نقيض ما أثبته بهما من قبل، وهكذا يقلل كانط من شأن الأدلة العقلية في تكوين المعتقدات، لأن "العقل وحده" بدون التجربة الحياتية الواقعية سيتورط لا محالة في تناقضات لا نهاية لها، وفي عبارة شاعرية وصف العقل بأنه مثل "سماء مرصعة بالنجوم نراها ولا نلمسها" بينما "القانون الأخلاقي" المستمد من خبرات الحياة هو الحقيقة الواقعية التي يستطيع أن يلمسها كل فرد، ويحتفظ بها في داخله بعيدا عن متاهات الوجود الأنطولوجي. (4) أهمية رؤية كانط تكمن في تبرئة الدين من تهمة الدوجماتية التي انطلقت من افكار ديكارت وتقديسه المفرط للعقل، وينقلها من مرض وراثي في العقل الشرقي المشبع بتعالم السماء القاطعة، إلى العقل الإنساني العام، حيث يمكن لأي مجتمع أن يعاني من مرض الدوجما، فهناك ليبراليون دوجمائيون، وهناك ماركسيون دوجمائيون، لأن الدوجمائي هو كل من يعتقد في صحة أفكاره وفائدتها بشكل قطعي ونهائي، ولا يعترف بصحة أي أفكار أخرى تخالفه، وهذا يعني أن هناك دوجمائية في العلم وفي الاقتصاد وفي مفاهيم السياسة، وحتى في النظر إلى الحرية نظرة مغلقة، وقبل أن يتوسع المفهوم بهذا الشكل، ظلت النظرة للدوجماتية قاصرة على معتنقي المعتقدات الدينية باعتبارها معتقدات ثابتة لا تقبل النقاش، وكذلك معتنقي الميتافيزيقا والأفكار الفلسفية الغيبية، خاصة وأن الأديان بهذا الشكل، وكذلك الميتافيزيقا في عصور سابقة، نجحت في تحقيق فوائد إيجابية للمجتمعات التي سرت فيها من خلال تأمين درجة مقبولة من الاستقرار الاجتماعي، والترابط حول مجموعة من القيم الاخلاقية الموحدة بصرف النظر عن وجود فائدة حقيقية لها أم لا، وهكذا كان الثبات في العالم القديم واحد من جنرالات "الاستقرار" المخلصين. هيجل يؤصل فلسفيا لعصر يقبل التناقض (5) مع دخول العلم مرحلة إنتاج الآلة، واتساع ظاهرة الكشوف الجغرافية، وبزوغ فكرة التصنيع والتجارة والأسواق، والسفر، فرضت الحياة إيقاعا جديدا للعالم وللأفكار أيضا، وبدأ منهج الشك ينقلب حتى على ديكارت نفسه، وظهرت الحاجة للتعامل مع الآخر البعيد صاحب العقائد المختلفة، بصرف النظر عن أن هذا التعامل للإخضاع العسكري الاستعماري، او للاستغلال الاقتصادي وجلب الموارد، أو حتى للاستهلاك التجاري، وكان لابد أن يستخدم المستعمر أو التاجر (لافرق) لغة جديدة للإقناع، ويبحث عن جسور مشتركة مع اصحاب العقائد المغلقة خارج عقائده، وهنا ظهرت فلسفة هيجل عن "تصارع الأضداد"، مُثبتاً أن العالم كله يقوم على طرفين متناقضين بالضرورة (حالة سالم) وأن هذا التناقض هو المبدأ الدافع لكل تطور، فإذا لم يستطع العالم أن يقف على رِجل ويُحَرِّك الأخرى فإنه لن يستطيع أن يمشي، لكن المشكلة تبقى في قدرة الإنسان على إدارة العلاقة بين الثابت والمتغير، فقد كان سالم يملك كل مقومات المشي، لكنه لم يستطع ان يدير ما يملكه، فلم يحقق شيئا. (6) للدكتور نادر فرجاني كتاب بديع في الاقتصاد ونهضة المجتمعات، اعتبره أحد أهم الكتب الفلسفية ايضا في تحليل أزمة المجتمع العربي، فهو إلى جانب إثباته المتخصص لوجود إمكانيات عربية متاحة للانتقال من التخلف إلى التقدم، إلا أن المشكلة لا تتمثل في الموارد (الحالة البدينة لسالم)، لكنها مشكلة عقلية تؤدي إلى عدم الاستفادة من هذه الموارد، وهكذا كان عنوان مشروعه الاقتصادي التكاملي العظيم: "هدر الإمكانية – بحث في مدى تقدم الشعب العربي نحو غاياته"، ومن هنا فإن أي حل لما نحن فيه من ازمات يجب أن يبدأ بالنظر إلى مشكلة العقل الجمعي، فالحل ليس في بناء المدن الجديدة، ولا تجديد شبكات الصرف الصحي والمرافق، ولا حتى في صبغ المجتمع بقشرة الحداثة الغربية المستوردة، وتوفير نمط استهلاكي مريح، لكن في ضرورة العثور على صيغة ديدة نفكر بها في التعامل مع انفسنا، ومع الآخر، لأن كل مفردات التصنيع الحديث قد تتوفر لشعب فيقتل بعضه البعض بالمدافع بدلأ من الفؤوس، لأن نظام المعتقدات المغلقة لا يزال أحادياً، يقدس الجماعة التي ينضوي تحتها، ويشيطن الأخرى، ويدعو لقتلها بعد تكفيرها، وهذا ما يشرحه باستفاضة ميلتون روكيش في أكثر من مؤلف له، حيث تنجب العقول الدوجماتية مع الوقت بديهيات قطعية ومُسًلَّمَات نهائية غير قابلة للنقاش، بل ولا حتى للتفكير فيها. المفكر الأمريكي ميلتون روكيش (7) ينبهنا روكيش لأهمية القدم الثابتة، لكنه يوضح لنا أن ثباتها موقف تكتيكي للمساعدة على الحركة، وليس من أجل الجمود والثبات في ذاته، ولهذا يضع خريطة للانتقال من العقل الصارم والاعتقاد النهائي المغلق إلى حالة من "الرسوخ العقائدي" هي ما أسميه "الثبات على المبدأ"، فالمبادئ زمنها أطول كثيرا من الأفكار السياسية أو من الحلول الطارئة للمشكلات اليومية، التي تستوجب مرونة في التفاعل مع المتغيرات، واتباع الاكتشافات العلمية ومواكبة حالة المحيط الذي نعيش فيه. (8) قيل لجحا: كم الساعة؟. فقال: الثامنة وبعد ساعتين سألوه: فقال أيضا: الثامنة! بصرف النظر عن تفسير جحا الفكاهي، فإن موقفه "دوجماتيكي" وليس رسوخا عقائدياً أو ثباتاً على مبدأ، لأنه لم يدرك الفرق بين الثوابت والمتغيرات. فهل ندركها نحن؟ أتمنى [email protected]