عبر طريق جبلي وعِر تتخلله المطبات، ويغطيه الغبار وتتراكم الحجارة وأكوام الرمال والصخور والكتل الحجرية على جانبيه، بصورة أشبه ما تكون بسيدة عجوز أكل على وجهها الدهر وشرب وغطت التجاعيد تفاصيل جلدها، لكنها لا تزال تحتفظ ببقايا أنوثتها وجمالها بكل ما بقي من وسائل صناعية وأدوات تجميل عصرية، هناك تتهادى السيارات على جانبيه قبل محطة الدخول إلى محاجر جبل دهشور عبر بوابة جانبية يجلس فيها شاب ويصحبه معاون. من خلال ذلك المنفذ يحصِل الشابين على "كارتة" دخول من السائقين بالإكراه، تبلغ قيمتها 20 جنيها تحت بند رسوم دخول المحافظة، من إجمالي 10 آلاف جنيه يوميا يتم تحصيلها من 500 سائق يترددون على الجبل بخلاف ما يدفعونه بالداخل، هذا وإلّا أصبح صاحب السيارة معرضًا لدفع مخالفة مالية لا تقل عن 1000 جنيه غرامة، وهكذا يسري الوضع على جميع سائقي محافظات الدلتا، بينما لا يقترب أحدهم من سائقي محافظة الجيزة الذين سبق لهم أن أعلنوا غضبهم على هؤلاء وحطموا لهم الكشك الخاص بهم وطردوهم من المكان، حتى خضعوا لشروط "الجيزاوية" واكتفوا بفرض الرسوم على أبناء وجه بحري فقط، ووسط كل ذلك جاءت مغامرة الدخول إلى أوكار العرب وأصحاب المحاجر في حضن الجبل. وعلى الجانب الآخر يجري العمل على قدم وساق، لبناء مدافن جديدة فوق المنطقة الأثرية التابعة لمحافظة الجيزة، رغم أن عدد سكان منشية دهشور لا يوازي هذه المقابر، مما يفتح الباب على مصرعيه لتأويلات أخرى، أهمها أن الهدف الرئيسي من بناء هذه المقابر تحويل منطقة دهشور بأكملها إلى "قرنة" جديدة، لتكون بابًا خلفيا في تفريغ دهشور من آثارها. ممنوع الاقتراب أو التصوير محاولات الوصول إلى جبل دهشور أشبه بدخول ثُكنة عسكرية كاملة التسليح، فعبر طريق جبلي تتخلله المطبات الاصطناعية، تسلك سيارات النقل الثقيل مسارها للدخول إلى قلب الجبل، والسعي إلى تحميل عرباتهم بأدوات البناء المختلفة "رمل وزلط وطفلة"، المستخرجة من باطن الجبل. يقابل هؤلاء السائقون في طريقهم الوعر، مجموعة من البطلجية الذين يفرضون عليهم إتاوات للدخول إلى بطن الجبل وأثناء خروجهم أيضًا، وتقدّر هذه الإتاوات ب20 جنيها على كل "نقلة" دون أوراق رسمية من مجلس المدينة تثبت أنهم يعملون لصالح الدولة. مغامرة داخل الجبل المصادفة وحدها قادتنا نحو فكرة خوض مغامرة الدخول إلى مافيا محاجر دهشور الملقبة بمنطقة الموت البطيء، وعبر إحدى سيارات النقل الثقيل التي تقوم بالتعتيق من الداخل، تمكن المحرر من اختراق بوابة الدخول شديدة الحراسة والهروب من عيون العرب، والبلطجية المنتشرين على مداخل ومخارج الطريق، وعيونهم المعسكرة عند مدخل ومكان المحجر. بين المحاجر لن ترى سوى "رمال وزلط وحجارة طينية وصخرية جبلية صفراء وسوداء" متناثرة في القاع من أثر الحفر والتشققات والنتوءات البارزة في بطن الجبل التي صارت أشبه بلوحة سيريالية قديمة لأحد رسامي الفن الإغريقي، وكأنها تعرّضت لزلزال مفاجئ شق الأرض وصنع أسفلها "بلاتوه" فني كبير. يمتلئ المكان بأصوات صاخبة تعقبها سرينة مزعجة وكلاكسات سيارات متفرقة من عربات النقل الثقيل المنتشرة بالمكان، والتي تصعد الجبل في طريقها نحو الشحن والعودة من جديد لتسلم عربات أخرى قادمة من الداخل، ومحمّلة بالطفلة والرمل والزلط المستخرجين من باطن الجبل الأصفر، وتتخطى حمولتها المسموح بها قانونًا مقابل دفع رسوم إضافية لمحطات الموازين التابعة للهيئة العامة للطرق والكباري، المسؤولة عن متابعة خطوط السير على الطريق. 20 ألف عامل في بطن الجبل ما بين سائقين وعمال وطباخين وشيالين يمارس ما يقرب من 20 ألف عامل أعمالهم اليومية داخل محاجر دهشور، غالبيتهم من البدرشين ومزغونة ومنشية دهشور وقرى متفرقة من محافظتي الجيزة وبني سويف، بحثًا عن "لقمة العيش" لاستخراج الرزق من بطن الجبل. هنا مقر العرب في بطن الجبل على بعد خطوات من مقر العرب، تلك الخيمة القماشية المنصوبة عند مدخل كل محجر، يعمل بها ثلاثة أفراد، وتقع على بعد خطوات من هرم سنفرو الأثري في الجهة المقابلة له على مرمى البصر، ويلجأ صاحب المحجر إلى حيلة ذكية للهروب من حملات الجيش المتتالية، حيث يقوم بشراء قطعة أرض مجاورة للمحجر لا تزيد عن نصف فدان يتخذها جراجًا لسياراته في ظاهر الأمر، لكنها في الحقيقة ليست سوى ستارة خفية ودولابًا خلفيًا من أجل التوسّع في عمليات الحفر داخل أرض الجبل المجاورة التي لا تخلوا من أحد اللوادر والسيارات التابعة له، دون رقيب أو مساءلة. لعبة القط والفار بين المحافظة وأصحاب المحاجر محافظة الجيزة_بحسب رواية أحد أصحاب المحاجر، تقوم بحملات مكبرة على منطقة جبل دهشور بين الحين والآخر، وفي بعض الأحوال يأخون معدات الحفر لتعطيل العمل، أو يفرضون غرامات تقدر ب250 ألف جنيه شهريًا على كل محجر. عبارة أخرى كثيرا ما تتردد داخل محاجر الجبل من العاملين وأصحاب المحاجر العشرة المتواجدة داخل جبل دهشور غير المرخصين ويعملون بشكل غير قانوني ويتعاملون مع قوات الجيش القريبة منهم، وعلى الجانب الآخر طبقا للعبة "القط والفأر"، يتم إبلاغهم قبل دقائق من حملات الجيش على مافيا الحفر في منطقة أثرية، فيأخذوا حذرهم ويختبؤون في بطون الجبل حتى تنتهي الحملة العسكرية التي تتعامل معهم، ثم يعاودون الكرة من جديد، فضلا عن حملات المحافظة المتكررة. كل محجر في دهشور قائم عليه سائق لودر يقوم بأعمال "تعتيق" سيارات النقل الثقيل والخفيف بالطفلة، وشخص آخر مناوب من العرب، يتولى مهمة تحصيل رسوم "التعتيق" من سائقي السيارات بواقع 200 جنيه عن كل حمولة، ويعمل تحت يديه إثنان لم يتجاوزا ال 15 عامًا، لقضاء حوائجه من الطعام والشراب من خارج المحجر المعزول عن العالم الخارجي. محاجر دهشور.. الحفر في منطقة أثرية محظورة على بعد خطوات من هرم سنفرو الثاني، أول هرم حقيقي يتم بنائه في مصر تتم عمليات الحفر خِلسة من قبل أصحاب المحاجر باستخدام اللوادر والحفارات المرابطة في المكان، حيث يحصل صاحب المحجر على جميع الأرباح من وراء تلك العمليات عبر بيع "الطفلة، الرمل، الزلط"لأصحاب المصانع والعقارات، وفي بعض الأحيان يتم العثور على جبانات تحوي مقابر أثرية تحت الأرض، نتيجة تزايد أعمال الحفر، وحين حدوث ذلك يتم إحاطة تلك المنطقة كالسوار الذهبي بقوة مسلحة بالرشاشات والأسلحة الآلية من قبل العرب حتى يتم الانتهاء من استخراج وبيع ما تحويه من كنوز أثرية، ومن ثم تحصيل الملايين من وراء بيع تلك الآثار والإتجار غير المشروع بها، رغم أن تلك المنطقة بالكامل تقع في حزام "الآثار" وتعد من مواقع التراث العالمي التابعة لليونسكو؛ لاحتوائها على أثار الأسرة الرابعة وتوجد بها جبانة بني فيها الملك سنفرو اثنين من أهرامه الثلاثة، الهرم المنحني والهرم الأحمر الداكن. ويحفر العمّال ليل نهار في بطن الجبل لاستخراج كنوز الأرض وينعمون في ظل ذلك بالماء والكهرباء ويتوسعون في الاستيلاء على مساحات شاسعة من أراضي الدولة والتي من الممكن أن تحوي كنوزًا أثرية كثيرة، بالمخالفة لقانون حماية الآثار الصادر في 2010، والذي يغري المتعدي بالتوسع في المخالفات التي يرتكبها بعيدا عن عين الدولة ورقابة الأجهزة المعنية، حيث يكتفي بفرض غرامة لا تزيد عن 100 جنيه، والحبس لمدة لا تزيد عن الشهر مع إيقاف التنفيذ.