«الطريق إلى دهشور مفروش بالمخالفات، فلا رقابة أو تفتيش أو تأمين أو منع للتعديات على الآثار هناك، لأن ببساطة، مفيش دولة».. هكذا استهلت كبير مفتشى آثار دهشور، وهيبة صالح حديثها مع «الشروق» عن حجم الكارثة التى ألمت بالمنطقة الأثرية على مرأى ومسمع من المسئولين، خلال الأعوام الماضية. تستقبلك مدينة دهشور العتيقة، التابعة لمحافظة الجيزة، بشوارع ضيقة، ومطبات وحفر وعرة، ومزلقانات متهالكة، وأسفلت محطم، وغبار كثيف تثيره العربات المارة، وسيارات النقل المحملة بمواد البناء، وبرغم ما تحتويه من كنوز أثرية مهمة، دفعت منظمة اليونيسكو العالمية لاعتبارها من مواقع التراث العالمى، فضلا على أنها تضم الهرم المنحنى، والهرم الأحمر، والذى يعد أول هرم مكتمل البناء عرفته مصر، إلا أنها تعانى حالة من النهب المنظم. على بعد أمتار من المنطقة الأثرية، تقف جرافات كبيرة، تتولى تجريف ثروات الأرض من رمل وطوب وطفلة، لتنقل عبر سيارات كبيرة إلى أماكن مجهولة خارج المنطقة: وتكشف كبير مفتشى دهشور: «هذه المحاجر غير مرخصة، ولا يمكن أن ترخص أبدا، لأنها تعمل فى حرم منطقة أثرية، يعنى ممنوع فيه البناء والزراعة والحفر، وأى أنشطة تمس الأرض». وتضيف: «حسب قانون حماية الآثار، فإن من يقوم بالبناء أو الحفر فى منطقة أثرية يعرض نفسه لعقوبة تصل إلى الحبس لمدة شهر واحد فقط، بجانب ذلك فإن هذه المحاجر تنعم بالماء والكهرباء، برغم أنها غير مرخصة، وهذا يرجع لعدم وجود دولة». وتشير وهيبة إلى أن منطقة دهشور تضم مخزنا للقطع الأثرية التى اكتشفتها بعثة ألمانية حديثة، بجوار مكتب الآثار، ورغم هذا لا يخضع أى زائر للمنطقة للتفتيش من أى نوع، مشيرة إلى أن الخفراء المكلفين بالحراسة لا يملكون سوى سلاح عادى، ينهزم ببساطة أمام السلاح الآلى الذى عادة ما يكون بحوزة المعتدين، لافتة إلى أن الموظفين التنفيذيين لا يملكون سوى تحرير محاضر بالمخالفات والتعديات ولكن لا أحد يملك إزالته. عندما حاولنا الدخول إلى دهشور من الطريق الخلفى للمنطقة، اعترضنا الأهالى ونصحونا بالتوجه إلى شرطة الآثار للاستفسار عن أى معلومات، مؤكدين أن الدخول إلى دهشور خطر على حياتنا. استجبنا للنصيحة، وتوجهنا إلى شرطة الآثار، لنجد بوابة مغلقة بالمتاريس، توقفنا وطالبنا الدخول للمنطقة الاثرية، فسمحوا لنا دون تفتيش. «التوك توك» يتجول بشكل طبيعى داخل حرم المنطقة الأثرية، فلا رقابة من أى نوع، أما التعديات على الأرض الأثرية فقد امتدت إلى كيلومتر. وتضيف وهيبة: قبل الثورة لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب من المنطقة، لأن السيطرة والرقابة كانتا على مستوى عال، لكن حاليا، لا تفتيش ولا رقابة ولا تأمين ولا حتى منع للتعديات». الأهم من وجهة نظر كبيرة آثار دهشور، ليس إزالة التعديات، بل منعها من الأساس، خاصة أن قانون حماية الاثار 2010 يغرى للمتعدى بالتوسع فى المخالفة، حيث يكتفى بتغريمه 100 جنيه فقط والحبس شهرا مع إيقاف التنفيذ، مشيرة إلى وجود قانون يحيل مسئولية اتخاذ الإجراءات القانونية لحماية الآثار إلى المجلس الأعلى للآثار، وهو قانون رقم 117 لسنة 1983. اصطحبتنا كبيرة آثار دهشور للتجول بالمنطقة الأثرية ولرؤية ما بناه الملك سنفرو من حضارة عريقة، واضطررنا للاستعانة بسيارة خاصة بالشرطة. هنا فى دهشور عاشت ثلاث أسر، أولاها الأسرة الرابعة، التى أسسها الملك سنفرو، وشيد مجموعته الهرمية، الهرم المنحنى والأحمر الداكن، والذى استخدمت فيه حجارة تميل إلى اللون الأحمر، كما أسس الأسرة الثانية عشرة التى بنى أمنمحات الثانى ثالث ملوكها هرمه فيها على بعد 3 كيلومترات، وهو المعروف بالهرم الأبيض، متميزا بسطحه الأملس، وحجارته الجيرية ذات اللون الأبيض الجذاب، يعكس ضوء الشمس. أثناء تجولنا ما بين الاهرامات الثلاثة، رأينا العشرات من الحفر التى يصل عمقها إلى 3 أمتار فى قاع الأرض، وقالت وهيبة: «اللصوص يتسلقون المنطقة من الجنوب ويقومون بالحفر طمعا فى الحصول على قطع أثرية، فالمنطقة مساحتها 10 كيلومترات، يحرسها 11 خفيرا فقط موزعين على 3 ورديات، كل 3 فى وردية، فضلا على أنهم غير مدربين على استخدام السلاح، ولا يحملون إلا طبنجة 9 مللى، والحرامية بييجوا بالآلى، يعنى الغلابة دول ولا يقدروا يعملوا حاجة». من الوهلة الأولى لدخولك حرم دهشور، تلاحظ اللودار الكبيرة، ترفع الرمال على سيارات النقل، وهو ما تصفه وهيبة، بأنه «أخطر ما تواجهه المنطقة الأثرية»، وتبرر ذلك بأن «الزحف تجاه الهرم المنحنى سوف يؤدى بعد سنوات إلى خلل فى توازنه، وقد يتسبب فى شرخ جزء منه». تقول وهيبة: رفعنا شكايتنا للمسئولين، وحررنا عشرات المحاضر فى قسم الشرطة، وحصلنا على قرارات من الوزارة بإزالة كل مظاهر التعدى على حرم الآثار، لكنها ظلت مجرد حبر على ورق.. «مفيش تنفيذ». وتضيف أن شركة كبرى خاصة للإنشاءات والمقاولات كانت ضمن المتعدين على الحرم الأثرى، حيث أقامت بالمخالفة للقانون خلاطة خرسانية بجوار هرم دهشور يصل ارتفاعها إلى 3 طوابق، لاستخدامها فى مشروع تنقية مياه الشرب، وتؤكد وهيبة أنه تم تحرير محاضر لبعض العاملين بالمشروع، استغلوا موقع عملهم للتنقيب على الآثار. تلمع الدموع فى عينى وهيبة، وهى تحكى كيف أدخلت الشركة جرارات ضخمة لتسوية الأرض الأثرية بجوار هرم دهشور، وكيف أنها أرسلت محاضر التعدى إلى وزير الداخلية ومدير أمن الجيزة، لكن لم يتحرك أى مسئول لإنقاذ تراث مصر من الكارثة، «حررنا 400 محضر تعدٍ على الأرض الأثرية ولم يتم تنفيذ أى قرار ازالة حتى الآن»، مشيرة إلى أن تكلفة ردم الحفر يكلف الوزارة 150 ألف جنيه، مطالبة بتطبيق قانون 2010 المعدل الذى ينص على تغريم الشخص الذى يحاول تغيير المقاول 100 ألف جنيه ومحاكمته من عام إلى 5 أعوام حسب حجم جريمته. وأكدت وهيبة ل«الشروق» أنه فى حالة موافقة محافظ الجيزة لأى شخص بمنحه رخصة محجر لابد من التنسيق مع الآثار وعمل «مجسات» بالقرب من المنطقة للتأكد عدم الاضرار بالمنطقة الأثرية، وقالت: «محاجر دهشور موجودة من فترات زمنية كبيرة قبل استلام الآثار للأرض فى عام 1997، وأوضحت أن المحاجر تخالف من خلال التوسع فى المساحة المحددة لها للتحجير حيث ان بين الارض الاثرية والمحاجر 3 كيلو لكنهم يقومون بالتوسع فى المساحة المقررة بالتحجير على ارض الآثار. من جانبه يرى محمد يوسف، مدير منطقة آثار دهشور ل«الشروق» أن سبب الازمة الحقيقية بين المحاجر والآثار يرجع إلى أن المحاجر كانت تابعة للقوات المسلحة فى عام 1960 قبل اتفاقية اليونيسكو وتم ضمها للمنطقة الاثرية، مشيرا إلى أن الهرم له حرم أى امتداد أثرى لابد أن يبعد 3 كيلو عن المحاجر، متهما محافظة الجيزة بأنها السبب الرئيسى وراء مافيا المحاجر لأن جزءا رئييا من داخل المحافظة يأتى من رسوم المحاجر، مشيرا إلى أنه لا يوجد تعاون بين الآثار والجهات التنفيذية. وتابع: «لو المحافظة عاقبت المخالف بتغريمه ماديا سوف نحد من المخالفات لكنها ترفض تنفيذ أى قرار ازالة للمحاجر». وفسر مدير منطقة آثار دهشور، مدى تأثير التحجير على جسم الاهرامات، وقال: هذا يتسبب فى خلل جيولوجى فى الهضبة ويخل بالتوازن الإنشائى والثبات القائم عليه مثلث الهرم. وبسؤاله عن خط البترول «سوميد» الذى يمر بهذه المنطقة قال إنه فى منتهى الخطورة لكننا استلمنا الأرض وعليها خط البترول، وقال: «هذا عيب دولة معندهاش تصور ولا دراسات للمناطق»، مؤكدا انه فى حالة انفجاره سيتم تفجير 5 كيلومترات مربع لأنهما خطان يمران تحت الهرم المنحنى والشمالى. وأضاف: ضعف الموارد المالية بوزارة الاثار أدت إلى عدم تسليح الخفير النظامى الذى لا يملك غير اسلحة بدائية غير مؤهلة للتصدى للصوص بالإضافة لعدم وجود سيارة دفع رباعى تجعلنا عاجزين عن ملاحقة اللصوص وذلك لأن «وزارة الاثار مفيهاش فلوس». وقص يوسف واقعة تثبت ضعف القوانين الخاص بحماية الآثار، فقال، إن خفيرا يدعى محمد طه قام بإزالة بعض الاشجار فقام المتعدى صاحب الأشجار بتحرير محضر ضد الخفير فكانت النتيجة ان حكم على الخفير بسنة سجن لتعديه على اشجار المخالف فى حين ان المتعدى حكم عليه بشهر فقط «فالقوانين تحمى اللصوص». من جانبه، قال عدلى الشليحى رئيس ادارة المحاجر بمحافظة الجيزة، إنه لم يتسلم أى قرارات ازالة من الآثار، مؤكدا أن الجهات الشرطية هى المسئولة عن تنفيذ قرار الازالة. واضاف الشليحى: «لا يوجد محاجر بالقرب من المنطقة الاثرية وأن المحافظة ملتزمة بالقرارات الوزارية بعدم التعدى على حرم الارض الاثرية، موضحا أن ادارة المحاجر هى من تقوم بإخطار الآثار بتعدى بعض اصحاب المحاجر لتنفيذ القانون، ولتطبيق العقوبة عليهم، وأوضح انه إذا تمت سرقة البعض للمواد المحجرية من ارض الآثار فإنها عملية يصعب رصدها لأن المخالف يقوم بحمل الرمل والزلط من الارض ثم يقوم بمغادرة المكان فى مدة زمنية لا تتعدى 30 دقيقة. بينما يقول نائب رئيس قطاع الاثار، على الاصفر، هناك لائحة تنفيذية تنظم الموافقة على ترخيص محجر بالقرب من المناطق الاثرية، وهى أن تسلم إدارة المحاجر للآثار خريطة بتحديد موقع المحجر، وتحديد نوع المحجر وتحديد المساحة، وبعد ذلك تتم المعاينة بناء على اللائحة ثم يتم تعيين مراقب حفر من قبل الآثار لمراقبة المحجر. وأضاف نائب رئيس قطاع الآثار: وزير الآثار شكل لجنة لدراسة قانون الاثار القديم وقدمنا مقترحات بتعديل القانون، وفى انتظار مجلس الشعب القادم لإقراره حيث ينص على مضاعفة العقوبة بالسجن 5 سنوات، وغرامة قد تصل إلى 100 ألف جنيه.
اقرأ أيضاً : ضبط 770 قطعة أثرية بحوزة تاجر فى المنيا