منذ أن قامت الخلافة وصراعات المسلمين بينهم وبين أنفسهم لا تنتهي، ويكون المسلمون هم السبب الأول في سقوط كل دولة مسلمة وقيام غيرها، فبداية من الأمويين مرورا بالعباسيين والفاطميين والمماليك والعثمانيين، ترى أن الدم الأكثر استباحة هو دم المسلمين والعرب، ولعل هذا ظهر جليا في الدولة العثمانية، وهذا ما نحاول عرضه في هذا التقرير. الدولة العثمانية ومراميها وموقفها تجاه الأندلس. لعل الكثير ينظر لهذه الدول التي مرت عبر العصر الاسلامي على أنها جاءت لتخدم دين الله وتعلي كلمته، ولكن هناك بعض أمور وعلامات استفهام يصعب حلها والوصول إليها، سوى بصورة غير التي نتبناها الآن، فمثلا الدولة العثمانية التي جاءت كما يزعمون للحفاظ على الإسلام والمسلمين، ولكن هل الحفاظ على الدين لا يأتي إلا بقتل أهله. أسس عبد الرحمن الداخل دولته في الأندلس وحقق فيها نصرا مشرفا، ولكن مثلها مثل باقي الدول، أن أصيبت الاندلس في نهاية عهدها بالطعف الذي أطمع فيها العدو، فقام الأسبان بسد مضيق جبل طارق، ليمنعوا وصول أي مساعدات من مسلمي شمال أفريقيا إلى الأندلس، فلم يبق أمام الأندلسيين سوى طلب النجدة من أكبر دولتين إسلاميتين آنذاك، وهما دولة العثمانيين في آسيا الصغرى، ودولة المماليك في مصر، فأرسلوا وفدا لكل منهما، ليصل الوفد إلى عاصمة العثمانيين في اسطنبول، في الوقت الذي تطور الأمر فيه بينهم وبين مصر، إذ طلب السلطان العثماني من نظيره المملوكي أن تكون العملة باسمه وان يخطب له على المنابر فرفض السلطان المملوكي، فرأى سليم الأول أن مخالفة أوامره من مسلمين تستوجب حربهم أكثر من عدو يقتل وينشر الفساد في الأندلس، فترك الأندلس وذهب إلى غزو مصر لتضعف قوى أكبر دولتين فتكون النتيجة سقوط الأندلس. العثمانيون وفتح مصر. زحف السلطان سليم الأول على الشام فهب سلطان مصر السلطان الغوري مدافعا عنها، ولكن الهزيمة حلت به في الموقعة الشهيرة مرج دابق، وسقط الغوري قتيلا، وعند إذن انسحب فلول جيشه إلى مصر وفي أعقابه الجيش العثماني يواصل زحفه، وواف هذا ان اتفق أمراء المماليك في مصر على اختيار السلطان طومان باي للسلطنة فبدأ يستعد لمقاومة العثمانيين وحربهم، ولكن السلطان سليم عرض عليه الصلح بشرط أن يعترف بتبعيته له وأرسل لطومان باي برسالة يهدد فيها بالويل إن لم يبادر بطاعته يقول فيها: "إذا أردت أن تنجو من سطوة بأسنا، فاضرب السكة في مصر باسمنا وكذلك الخطبة، وتكون نائبنا بمصر، ولك من غزة إلى مصر ولنا من الشام إلى الفرات، وإن لم تدخل في طاعتنا أدخل مصر، وأقتل جميع من بها من الجراكسة، حتى شق بطون الحوامل، وأقتل الأجنة التي في بطونها من الجراكسة" فتظاهر طومان باي بالميل إلى الصلح ليكسب بعض الوقت كي يعد عدته، ولما انتهى أصدر أمره بالرحيل إلى العثمانيين ولكن المؤسف أن أمراءه من المماليك أظهروا الكثير من الاستهتار والاستهانة بالموقف، وفي الريدانية أبى الأمراء والعسكر إلا الوقوف عندها وعدم التقدم إلى الصالحية، فلم يسعه سوى التحصن بها وحفر خندقا على خطوطها الأمامية، ولما علم السلطان سليم بهذا الحصن غير وجهته إلى القاهرة، فتحول أيضا طومان باي إلى القاهرة والتحم الفريقان وكانت الخسائر فادحة في الجانبين، ثم حمل العثمانيون على المماليك حملة عنيفة، فوجد طومان باي نفسه يحارب بنفر قليل، فولى مدبرا واختفى، فدخل السلطان سليم القاهرة في موكب كبير، وانقلب جنده يعيثون فيها فسادا وسلبا ونهبا لمدة ثلاثة أيام، بحجة البحث عن المماليك الجراكسة، ثم نقل سليم مركز قيادته من الريدانية إلى بولاق، فباغته فيها طومان باي على حين غرة، وانتصر عليه ومن ثم عاد المماليك الفارين وشاركوه في المعركة، ولكنهم لما اشتد الحرب عادوا ليختبئوا فوجد طومان باي نفسه وحيدا مرة أخرى فلجأ للهرب، وظل ينتقل من الجيزة للصعيد، حتى أدرك استحالة الانتصار فذهب إلى الغربية، قاصدا أن يحتمي بحسن بن مرعى وابن عمه شكر اللذين كانا من شيوخ عرب محارب، كما ظن أيضا أن حسن بن مرعى سيرد له الجميل عندما أطلق سراحه من السجن في عهد السلطان الغوري، وانه سينفذ وعوده التي قالها حينها بأن يكون هو وجيشه رهن إشارة طومان باي، وعندما وصل إليهم رحبوا به جل ترحيب فاطمأن لهم. سقوط طومان باي وإعدامه. غلبت روح الخيانة على حسن مرعى، الذي كان يخشى السلطان سليم ويرغب في عطاياه، فأرسل إليه يخبره بمكان طومان باي، فأرسل السلطان جيشا فقبض عليه، ولما دخل طومان باي على السلطان سليم وهو في زي عرب هواره أعجب به وبشجاعته وقام يتأمله، ثم اتهم بقتل رسله، فنفى التهمة عن نفسه، وأوضح له أن موقفه كان عادلا، إذ لا بد أن يدافع عن بلده، وإن شرفه العسكري وشرف بلاده يقتضيان ذلك مهما كلفه الأمر، فزاد إعجابه به أكثر ثم قال له:"والله ما كان قصدي أذيتك ونويت الرجوع من حلب ولو أطعتني وجعلت السكة والخطبة باسمي ما جئتك ولا دست أرضك" فأجابه طومان باي قائلا:"الأنفس التي تربت في العز لا تقبل الذل، هل لو أرسلت لك أنا وأمرتك أن تكون تحت إمرتي هل كنت ترضى بذلك؟ هل سمعت أن الأسد يخضع للذئب، لا أنتم أفرس منا ولا أشجع منا، وليس في عسكرك من يقايسني في حومة الميدان" فلم يسع السلطان سليم إلا أن يزداد إعجابا به ثم قال:"والله مثل هذا الرجل لا يقتل" وأمر بوضعه في السجن حتر ينظر في أمره، وعندئذ استبد القلق بالخائنين خاير بك وجان بردي الغزالي فكتبا إلى السلطان يحرضانه على إعدامه حتي أعدمه السلطان سليم في إبريل 1517م وذلك في موقف مهيب لم يهتز له طومان باي، إذ صار في شوارع القاهرة حتى وصل إلى باب زويلة، وأُرخي له حبل المشنقة، وهنا دعى طومان باي الملأ الذي حوله أن يقرأ له الفاتحة ثلاث مرات، وبسط يده في السماء وقرأ الفاتحة في صوت مسموع، ثم نفذ الحكم وظلت جثته معلقة على باب زويلة ثلاثة أيام، ثم دفنت بحوش المدرسة التي بناها السلطان الغوري.