فجر يوم الخميس 3 فبراير 2011.. منطقة وسط البلد.. كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة صباحا.. وأنا متسمرة أمام شاشة التليفزيون.. متنقلة بين القنوات التى كانت تبث على الهواء مهزلة موقعة الجمل.. التى بدأت ظهر الأربعاء, واستمرت حتى نهاية يوم الخميس.. اسمع صوت سيارة يختلط بأصوات بشر.. أقوم عجلة صوب بلكونة تطل على شارع الجمهورية حيث يقبع البنك المركزى المصرى.. المتحصن بالدبابات والسيارات المدرعة منذ الثامن والعشرين من يناير 2011.. أشرف على الجنون وأنا أرى سيارة من نوع نصف النقل.. محملة بما لا يقل عن 20 شخصا مدججين بالعصى والمواسير الحديدة.. قادمة من اتجاه ميدان رمسيس.. يفتح لها الجنود الحواجز الحديدة التى كانت تغلق هذا الشارع من ناحيتين.. كاسرين حظر التجول المضروب على القاهرة الكبرى.. متجهه بخطى حثيثة صوب ميدان التحرير.. أراقبها حتى تختفى فى ظلام الفجر الذى لم يولد بعد.. فى عمق خيوط دخان قنابل المولوتوف التى أغرقت المعتصمين عند “جيب” عبد المنعم رياض.. لأعود مرة أخرى إلى جلستى أمام شاشة التليفزيون.. وأنا أكاد أجن فلا أجد سوى ما أكتبه من أدعية على صفحة مفتوحة أمامى على فيسبوك.. تنهمر الأدعية من الأصدقاء فى بلدان شتى “ربنا يحفظ مصر ويحمى المصريين فى التحرير”.. لتخترق أذنى مرة أخرى أصوات سيارة مختلط بأصوات بشر.. فأقوم مرة أخرى مهرولة إلى البلكونة.. لأرى نفس المشهد.. بسياراته النصف نقل المحملة ببشر مدججين بالعصى والمواسير الحديدية.. تكسر حظر التجول.. وتعبر بسلام من الحواجز الحديدية.. متجهه صوب التحرير.. تختفى فى عمق خيوط الدخان.. وأصوات بعيدة تلتقطها أذنى المنتبهة لطلقات نارية.. تمزق سكون الترقب الذى حاصرنا جميعا فى تلك الليلة.. لأعود مرة أخرى لصفحتى المفتوحة على فيسبوك.. وشاشة التليفزيون.. وحيرتى التى اختلطت بالألم والخوف والحنق فى ذات الوقت.. أمضيت تلك الليلة حتى أشرقت الشمس, مهرولة كل عدة دقائق إلى البلكونة.. تجاوز عدد السيارات التى شكلت مددا للبلطجية فى ميدان عبد المنعم رياض عشرين سيارة.. فى فترة ما قبل الفجر فقط.. ومن اتجاه ميدان رمسيس فقط.. عكس ما يعتقد البعض أن أسطول الهجوم كان يأتى من الجيزة.. ويعلم الله من أى اتجاه آخر كان يأتى أولئك فى محاولة مستميتة لتصفية الميدان قبل شروق شمس الخميس الثالث من فبراير 2011.. وطوال عام مضى من عمر الثورة.. لم تتوقف محاولات تصفية ميادين التحرير.. إما بنفس الطريقة, أو بطرق أخرى.. ليست جديدة على كل فى تاريخ ثورات الشعوب.. فعملية تشويه الثورة ليست ابتكارا مصريا.. حدثت قبل سنوات فى رومانيا.. وتحدث منذ شهور فى اليمن وسوريا, وقبلها فى ليبيا.. لكنها دوما لا تنجح حتى لو طال بها العمر.. لا تؤتى ثمارا فى دفع الناس لكره الثورة.. لكنها فقط تؤجل سيرها فى طريق سليم لبعض الوقت.. وهو ما حدث طوال العام 2011.. لذا فأنا أرى بوضوح أن ثورة مصر التى انطلقت شرارتها يوم 25 يناير 2011 لم تبدأ بعد.. فقط اعلنت عن نفسها.. فكشفت الغطاء عن كل شىء وأى شىء.. وعكس ما يرى البعض.. فأنا مطمئنة جدا للنتيجة التى وصلنا إليها بعد عام.. فمصر كانت تحتاج بشدة إلى عملية كشف الغطاء هذه.. ليرى المصريون أنفسهم أمام بعضهم البعض بوضوح.. المنافقون والانتهازيون والمتسلقون وأصحاب المصالح والمدعون والمتاجرون بالنضال فى كل العصور.. إستدرجهم الزخم المحلى والدولى للشهور الاولى للثورة.. فاندفعوا دون ان يتحسسوا مواضع أقدامهم.. فكشفوا بوضوح ما فى نفوسهم.. ومالوا صوب توازناتهم إما فى اتجاه سلطة مؤقتة حاكمة.. أو فى اتجاه تيار يتدثر بعباءة الدين.. ولا يحتاج الامر منهم شيئا.. فقط بعض المكياج, وحقائبهم دائما جاهزة به.. ليكتشفوا فجأة أنهم دخلوا فى منطقة رمال متحركة.. لا يستطيعون منها فكاكا.. بحر رمال عظيم إبتلع على مدار العام الكثيرين.. وهذا أروع ما فى هذا العام.. عملية التطهير التى انتظرها المصريين فى أعقاب الثورة.. حدثت على مدار العام على الطريقة المصرية.. عملية تطهير هادئة بطيئة قاسية أحيانا.. ومازالت مستمرة.. فمازال فى قاع الكأس بقية!! [email protected]