(1) ارتدى نابليون بونابرت عباءة شرقية، وغطاء رأس شرقي غريب الشكل بالنسبة لضباطه وجنوده، وبعد أن تحركوا من مالطة باتجاه الجنوب الشرقي أعلن للجميع أن اتجاه الحملة هو مصر، فارتفع النقاش الذي يغلب عليه الفرح والمرح، وبدأت العناصر التي زارت مصر من قبل في رحلات الاستطلاع تتحدث عن سحر الشرق، والجواري الحسان، ودفء النهار ونسمة المساء، وأنواع العطور والبخور، والخير العميم، وكان الفنان ديفون يعزف ألحانه وسط الجموع ويحكي خلالها وبعدها في نشوة عن سحر الراقصات والأحلام الخيالية التي تنتظر الحملة في القاهرة، وشعر الجميع بحالة من الاسترخاء المريح كأنهم في نزهة بحرية وليس غزوة عسكرية، وقد كانت هذه الحالة جزء بسيط من خطة الخداع العبقرية التي وضعها نابليون، والتي نجحت أول خطوة فيها في تضليل الأدميرال نيلسون لمدة شهر كامل، فشل خلاله في العثور على أسطول نابليون في مياه المتوسط، برغم الاقتراب في المكان والتطابق في الزمان، وكان الجزء الثاني من خطة نابليون هو خداع شعب بالكامل عن طريق ترويض شيوخه، وأحتوائهم بالهدايا والرواتب والمناصب، ومن أجل هذا جلس يقرأ القرآن لحفظ بعض الآيات باللغة العربية، وأعاد قراءة التقارير التي كان تاليران قد أعدها عن كل شيء في مصر، وتصفح العديد من كتب التاريخ الاسلامي، وحياة الخلفاء والسلاطين ليضع لمساته النهائية على خطة اقتحام العقول، غير مكترث كثيرا بخطط اقتحام القلاع والحصون العسكرية! قلعة قايتباي.. تحصن فيها محمد كريم ومقاتلوه (2) وصل نابليون في أوائل يوليو إلى شواطئ الإسكندرية التي يتمركز فيها نيلسون مترقباً وصول الأسطول الفرنسي لتدميره، لكن نابليون كان قد قرر النزول غرب المدينة ناحية العجمي، وأصدر أوامره بإنزال العتاد والقوات ليلاً على البر، وأرسل فرقة تطلب حضور القنصل والقائمين على الحكم في الإسكندرية، لكن السيد محمد كُريم لم يحضر ومعه عدد من الكبار الذين انشغلوا بتدبير خطة الحشد والدفاع عن المدينة، وتعمد نابليون إطالة الاجتماع حتى غياب الشمس، وعرض خلاله تأمين المدينة مقابل التسليم بلا قتال، لكن أحداً من الحاضرين لم يكن يملك القرار منفرداً، فطلبوا مهلة للتشاور وأخذ الرأي، ولما دخل الليل أصدر نابليون أوامره بتحرك القوات البرية وسيطرتها على الاسكندرية، وحسب تعبير الجبرتي في (مظهر التقديس..): فلم يشعر أهل الثغر وقت الصباح إلا وهم (الفرنسيس) كالجراد المنتشر حول البلد، فلم يستطع أحد مدافعتهم ولا ممانعتهم، وانهزم كاشف البحيرة ومن معه من العربان، ورجع أهل الثغر إلى التترس (اتحاذ المتاريس) في البيوت والحيطان، ودخلت الإفرنج البلد بأعداد كبيرة، وانسحب محمد كريم ليتحصن مع عدد من رجال المقاومة داخل قلعة قايتباى، لكنه لم يكن يملك من المؤن والأسلحة ما يؤهله للاستمرار في القتال، فاستسلم ومن معه، ونادى الفرنسيس بالأمان في البلد، وغقد اجتماعاً عاجلاً لأعيان الثغر فحضروا بين يديه، فألزمهم بجمع السلاح وإحضاره إليه، وطلب من الكبار وضع شارة "الجوكار" على صدورهم، وهي الشارة التي تحمل العلم الفرنسي الجديد بعد الثورة، ويسميها الجبرتي "الوردة" ووصفها كالتالي "ثلاث قطع من جوخ أو حرير أو غير ذلك، مستديرة في قدر الريال، سوداء (الصحيح كحلي) وحمراء وبيضاء، توضع بعضها فوق بعض، بحيث تكون كل دايرة أقل من التي تحتها بحيث تظهر الألوان الثلاثة. تمثال جانبي لحاكم الإسكندرية محمد كريم (3) في نفس هذا اليوم الذي تصور فيه نابليون أنه أخضع الاسكندرية دون قتال يذكر، واتفق مع محمد كريم على الاستمرار في الحكم لصالحه؛ لاعتباره مدافعا عن الإسلام وصديقا للسلطان العثماني، وأنه جاء إلى مصر "للاقتصاص من المماليك"، ونصرة شعب مصر، وأمر الجنرال بطباعة أول بيان للحملة، يعلن فيه أسبابها، ويضع فيه أسس خطة الاختراق النفسي والاستلاب الذهني للقادة وفي مقدمتهم المشايخ والأعيان، ومن المهم أن أنشر فقرات مطولة من البيان لأهمية صياغته، والأفكار التي وردت فيه، والتي لازالت تستخدم حتى وقتنا الحالي، من تحرير العراق وإقامة الديموقراطية بدلا من ديكتارتورية صدام، إلى الحرب ضد الإرهاب، ونصرة حقوق الإنسان، وحتى على المستويات الإقليمية والمحلية نلمح نفس المنهج والأسلوب في بيانات "انتو نور عينينا"، وإليكم نص البيان إلا قليلا: (4) بسم الله الرحمن الرحيم لا إله الا الله، لا ولد له، ولا شريك في ملكه/ بيان من السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنسية بونابرتة، من طرف الجمهورية الفرنساوية المبنية على أساس الحرية والمساواة.. يعرف أهالي مصر جميعهم أن الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية من زمن مديد يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع البلص والتعدي، فحضر الآن ساعة عقوبتهم، (…) فهذه الزمرة من المماليك يفسدون في الاقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض مثله، ولذلك حكم رب العالمين القادر على كل شيء بانقضاء دولتهم.ع نابليون بونابرت مرتديا عباءة مطرزة يا أيها المصريون قد قيل لكم أنني مانزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، وذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه والقرآن العظيم، وقولوا أيضا لهم: إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك، والعقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء حسن فيها، من الجواري الحسان، والخيل العتاق والمساكن المريحة؟, فإن كانت الأرض المصرية التزاما للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم، ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم، ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعدا لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها, وسابقاً كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك, أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجربجية وأعيان البلد، قولوا لأمتكم: إن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكواليرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين, والفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني، وأعداء أعدائه أدام الله ملكه، أما المماليك فإنهم غير ممتثلين لأمره، فما أطاعوا أصلا إلا لطمع أنفسهم، وسوف لا تقوم لهم قائمة, طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم". نص بيان بونابرت المكتوب باللغة العربية وانتهى البيان بخمس مواد ذكر في آخرها «ان المصريين بأجمعهم يجب أن يشكروا الله سبحانه وتعالى بعد القضاء على دولة المماليك، ويدعون بصوت عال: أدام الله اجلال السلطان العثماني, أدام الله اجلال العسكر الفرنساوي, لعن الله المماليك وأصلح الله حال الأمة المصرية». (5) تذمر بعض المقاتلين التقليديين في الحملة من صياغة البيان، واعتبروه ضعفا قد يغري المصريين بمقاومة أشد، أو بالسخرية من الخدعة الساذجة التي وردت في ألفاظ البيان، لكن نابليون لم يعبأ بالانتقادات والملاحظات, وسجل المؤرخ كريستوفر هيرولد في كتابه «بونابرت في مصر» التفاوت في تأثير البيان بين الفرنسيين والمصريين، وأورد شهادات كثيرة تؤكد أن تأثير البيان في نفوس المصريين كان أشبه بالسحر، لكن النسخة الفرنسية لم تتطابق مع النسخة المطبوعة بالعربية (رأينا ذلك ايضا عندنا خلال الأعوام القليلة الماضية)، فالنص العربي تضمن عبارات لم ترد في النص الفرنسي مثل «ان الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون»، ما يوضح أن بونابرت كان يقصد استغلال الدين واستمالة الشيوخ، ولا يؤمن حقيقة بأي دين، ويبدو هذا من رسالة كتبها بعد وصوله الى القاهرة، يقول فيها لكليبر الذي بقي في الاسكندرية لتأمينها: «إذا كسبنا تأييد كبار الشيوخ كسبنا الرأي العام في مصر كلها، فليس بين زعماء الأمة كلهم، من هو أقل خطرا علينا من الشيوخ، فهم جبناء عاجزون عن القتال، يوحون كجميع رجال الدين أنهم متحمسون للدفاع عن الوطن دون أن يكونوا هم أنفسهم متحمسين لذلك». هكذا وقعت الاسكندرية في يد الفرنسيين بسهولة، ولم تكن المناوشات، والمقاومة الشعبية العفوية تستطيع أن تؤثر في جيش عصري منظم ومسلح بخطط وأسلحة حديثة، ولما وردت هذه الأخبار إلى القاهرة (يقول الجبرتي مؤرخ مفترق الطرق) حصل للناس انزعاج، وعول أكثرهم علي الفرار والهجاج. أما الأمراء والمشايخ، فقد أخذتهم المفاجأة، والارتباك، وهذه هي قصتنا الأصلية، فانتظروها… [email protected]