في إطار محاولات التقريب بين المذاهب المتعددة التي دعا إليها أكثر مفكري ودعاة الإصلاح في العالم، سجلت التجربة الرائدة للإمام محمود شلتوت شيخ الأزهر [1893م: 1963م] انتشار وصدى واسع في العالم الإسلامي بأكمله. تولى الشيخ شلتوت مشيخة الأزهر 1958م. ولمدة 5 سنوات، خاض فيها غمار الإصلاح على جميع الأصعدة، حتى استحق بجدارة أن يكون أول حامل للقب "الإمام الأكبر"، وسعى الشيخ شلتوت إلى محاولة التقريب بين مذاهب المسلمين، فخاض غمار التأصيل والتفريع لأغلب المسائل الشائكة فيها وخاصة لدى (السنّة، والشيعة). الشيخ شلتوت.. رائد التقريب بين المذاهب كثيرًا ممن نادوا بالتقريب، اقتصرت دعوتهم على التنظير دون التطرق إلى الواقع الذي يمتلأ بالأزمات، إلا أن الشيخ شلتوت لموسوعيته الفكرية، ولانفتاحه على الآخر استطاع أن يتخذ الخطوات الإجرائية لمشروعه الفكري. عاش الشيخ شلتوت يحمل همّ قضية كبرى وهي "قضية الإصلاح" وخاصة على المستوى التشريعي فكانت دعوته التي لم ينفكّ يدعو إليها دائما متمثلة في بعض الأمور، وهي: ذمّ التقليد والخروج بالفقه عن مرحلة اتباع المذاهب، وما يستتبع ذلك من انغلاق روحي وعقلي. محاكاة الفقه الإسلامي للقوانين، ومحاولة البحث في المآلات والمقاصد، دون النظر في الجزئيات التي تدعو إلى الإنغلاق على الذات والعجز عن مسايرة الواقع المُتغير، كما ذكر ذلك في أبحاثه "المسؤولية المدنية" و "المسؤولية الجنائية". التي تقدم بهما إلى مؤتمر "لاهاي" للقانون المقارن الذي عقد سنة 1937م. وفي طريقه لنشر روح التعايش والتقارب بين المذاهب المتعددة واجه الشيخ شلتوت موجة عارمة من المحاربة المُتمثلة في انتصار كل صاحب مذهب إلى مذهبه وفكره، فنادى بأعلى صوته قائلًا: «إن المتأخرين حينما تحكمت فيهم روح الخلاف، وملكتهم العصبية المذهبية، راحوا يضعون من القوانين ما يمنع الناس من الخروج عن مذاهبهم، وانتقلت المذاهب بهذا الوضع عن أن تكون أفهامًا يصح أن تناقش فترد وتقبل، إلى التزامات دينية لا يجوز لمن نشأ فيها أن يخالفها أو يعتنق غيرها». عمل الشيخ محمود شلتوت على توحيد كلمة المسلمين ولم شملهم والقضاء على الخلافات بين المذاهب بإدخال دراسة المذاهب في الأزهر، والتقريب بين المذاهب، وهي القضية الكبرى التي عاش لها بقية حياته. وفي محاولاته التجديدية تطرق للحديث عن مسائل كثيرة مما كثر فيها الخلاف وتفرق من أجلها الكلمة ك(تحديد النسل، وفوائد البنوك، وختان الإناث، وغيرها) وأشهر فتاويه على الإطلاق هي "فتوى جواز التعبد بمذهب الشيعة الاثني عشرية"، وهي الفتوى التي حملت الكثير على انتقاد الشيخ والنيل منه، ولم يقتصر الأمر على الفتوى وهي الجانب النظري لفكرة التقريب بين السنة والشيعة، بل أنشأ ما عرف ب[دار التقريب بين السنة والشيعة]. فكرة دار التقريب ما هي إلا أحد ثمار تيار التجديد العام والتقريب بين المذاهب الذي خاض غماره الشيخ المراغي، وقد أُتيح للشيخ شلتوت في ذلك الوقت أن يرفع راية التقريب السني- الشيعي؛ فقد كان المناخ قد استعدّ وتهيأ لذلك بعد تبادل الزيارات بين عدد من مثقفي مصر وعلمائها وبين آيات النجف الأشرف، وثناء علماء السنة عليهم وإعجابهم بالحوزات العلمية؛ لما يُدرّس فيها من علوم عقلية بجانب العلوم النظرية، ولم يقتصر الأمر على زيارة العلماء وحسب، بل زارها من مفكرين وأدباء كبار أمثال: أحمد أمين، وزكى مبارك.. وسارت مؤلفات كثيرة بأقلام أهل السنة تتحدث عن الفقه الجعفري كالذي كتبه الشيخ "محمد أبو زهرة" والشيخ "محمد المدني"، رفقاء الشيخ شلتوت في التقريب. ولما سأل عن التعبد بمذهب الشيعة الإمامية، أجاب قائلا: «إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعاً کساير مذاهب اهل السنة. فينبغي للمسلمين ان يعرفوا ذلک وان يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة». فسارت هذه الفتوى في الآفاق وانتشرت في العالم الإسلامي المتوتر الذي يأكل في ظهره الشقاق والتفرق، ولقيت صدًى وتأييد كبير لدى كثير من حاملي لواء العلم داخل الدائرة السنية أو الشيعية، فكتب إليه بعدها الشيخ "أحمد عارف الزيني" صاحب "مجلة العرفان" قائلاً: «فأنا باسم علماء الشيعة جميعًا في لبنان وسوريا والعراق وإيران، أمد يدي مصافحًا وأفتح قلبي وصدري داعيًا ومؤيدًا، وأعدكم أن أعمل في مجلتي، وبنفوذي الديني والدنيوي للوصول بكافة الطرق إلى ما تصبو إليه نفسك ونفسنا من العودة بالمسلمين جميعًا إلى جوهر الدين وتعاليمه السامية، إلى كتاب الله وسنة رسوله لا فرق بين سني وشيعي». وكان عوام المتدينين في بعض الأوقات يشيعون بين الناس –كما هو الحاصل الآن أيضًا- أن ما صدر عن شيخ الأزهر شلتوت من فتوى يعتبر من قبيل الضلال، وكان الشيخ "محمد الغزالي" من المعجبين بفكر الشيخ شلتوت، وذكر في كتاب له: جاءني رجل من العوام مغضبًا يتساءل: كيف أصدر شيخ الأزهر-يعني الشيخ شلتوت- فتواه بأن الشيعة مذهب إسلامي كسائر المذاهب المعروفة؟! فقلت للرجل: ماذا تعرف عن الشيعة؟ فسكت قليلًا ثم أجاب: ناس على غير ديننا!! واليوم آل الأمر إلى إغلاق دار التقريب، وبمجرد ذهاب أحد علماء الأزهر (د. أحمد كريمة) إلى إيران، تم التحقيق معه، بل ورميه بأبشع التهم، وأصبح التوجه العام لدى أغلب المُتشرّعين من الأزهريين الرفض العام للتقريب بين السنة والشيعة، وهو المشروع الأكبر الذي يقضي على الخلاف والصراع الدائر، بل وأصبح التوجه العام هو الانجرار مع المزاج الوهابي في العداء الشيعي ولو ضمنيًّا. هذا ما آل إليه الأمر وأصبحنا نسمع كثيرا بعض الكلمات التي تزيد من الشقاق مثل: "الشيعة أخطر علينا من اليهود"، "الصوفية مدخل الشيعة"، "احذروا التمدد الشيعي" وهكذا. ولو يعلموا فائدة التقريب في إنهاء الصراع القائم لما نحوه جانبا، ولو وعوا كلمات الشيخ شلتوت عن التقريب، لما استبدلوها بغيرها.