لم يكن تنظيم حسن نصر الله هو القشة التى قصمت ظهر «التقريب» بين المذاهب، ولا تطاير التصريحات النارية من هنا وهناك ،بل إنه من المؤكد، كما يقول الدكتور عمرو الشوبكى الخبير بمركز الدراسات الاستراتيجية، أن الاحتقان السنى الشيعى لم يهبط من السماء، فاستيقظ أتباع السنة والشيعة فى الصباح وقرروا استدعاء التاريخ القديم والصراع على الخلافة والموقف من أبوبكر وعمر، إنما دون شك فهناك تغيرات سياسية عميقة وصراع على السلطة بدأ فى العراق، ثم قامت إيران (الدولة الشيعية ) باستثماره وملأت الفراغ الذى أعقب انهيار النظام الإقليمى العربى وتراجع الدور المصرى. ويشير إلى تصاعد الدور السياسى الإيرانى فى المنطقة العربية بعد احتلال العراق عام 2003، ونجاح النظام الإيرانى فى التأثير على قطاع واسع من الأحزاب الشيعية العراقية حتى بدا احتلال أمريكا للعراق وكأنه «هدية» جاءت إلى نظام الحكم فى إيران، وأعطته أوراق قوة صنعها الأمريكيون واستفاد منها الإيرانيون. ومثل الصراع السياسى بين الشيعة الذين بدوا وكأنهم الحكام الجدد فى العراق، والسنة الذين شعروا بالغبن والتهميش والاستبعاد، بداية الاحتقان المذهبى بين الشيعة والسنة الذى امتدت آثاره إلى باقى البلدان العربية، ومن الصعب فصله عن صراع السلطة الذى دار فى العراق. وأشار الشوبكى إلى أن إيران لم تكتف بالتأثير على الأحزاب الشيعية فى العراق، أو حزب الله فى لبنان، إنما أيضا تحالفت مع حركة حماس فى غزة، الموجودة على بعد آلاف الأميال، ومجاورة حدوديا وجغرافيا لمصر، ولم تنجح الأخيرة فى اكتساب ثقتها أو التأثير عليها. وأكد أن الخلاف المذهبى، وتراجع ثقافة التقريب بين المذاهب والحوار بين المذهبين الإسلاميين الكبيرين، وتزايد الريبة والتوجس المتبادل، لاترجع إلى الأسباب الدينية والفقهية، فقد تعايش السنة والشيعة فى لبنان والعراق وكثير من البلدان العربية..فمن الصعب فصل الاحتقان المذهبى الذى جرى بينهما عن تحولات وصراعات سياسية كبرى شهدتها المنطقة العربية مؤخرا.. وقال الشوبكى: إن خلط التشيع السياسى بالتشيع العقدى يؤدى إلى كارثة حقيقية، مؤكدا أن هذا الخلط فى قضية حسن نصر الله وتحميل الشيعة «وزر» القضية السياسية، كما ذهب إلى ذلك أحد رؤساء الأحزاب المصرية مؤخرا وتصدى له ببراعة صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى، يأتى لأن إيران دولة شيعية المذهب وتتمتع بنفوذ عال، ولها مشروع توسعى، ولذلك اختلط الحابل بالنابل. إيران لم تقدم شيئا! ويرى الدكتور معتز الخطيب والباحث الإسلامى فى الحركات الإسلامية أن أبرز ملامح محنة التقريب بين المذاهب الإسلامية وعجزه عن الصمود أمام أى اختبار حقيقى مثل قضية تنظيم حسن نصر الله أو التحذير من المد الشيعى وغيرها من المواقف، إنما ترجع إلى أن الطرف الشيعى لم يخطو خطوة واحدة نحو التقريب مع السنة، وقال إن فكرة التقريب إيرانية شارك فيها رموز سنية كالشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر، وغيره، وتعد إيران نفسها وهى راعية المشروع لم تقم بجهود «ملموسة» تؤكد صدق هذه الأطروحة أو جديتها، ولذلك ألقى الكثيرون بالتبعة عليها وعلى نفوذها فى العراق، الذى بلغت فيه العلاقة السنية - الشيعية مبلغا دمويا ! بل إن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل انضم إليه كلام كثير حول حقيقة الموقف الشيعى من المقاومة العراقية بالمقارنة مع المقاومة اللبنانية، مما أضفى مزيدا من الاشتباه والالتباس، وصولا إلى الصراعات السياسية اللبنانية التى انتهت بغزو «حزب الله» لبيروت لفرض مطالبه السياسية، إلى الأحداث الحالية. ويرصد الدكتور أحمد الخطيب تراجعا على مدار التاريخ عن جهود التقريب من رموزه التاريخيين، من بينهم الشيخ عبداللطيف محمد السبكى عضو جماعة كبار العلماء بمصر، والمفكر الإسلامى د. محمد البهى، والعالم د. مصطفى السباعى وآخرون، إلى العلامة الدكتور يوسف القرضاوى لينضم إلى ذلك الركب الذى أمضى فى التقريب شوطا بعيدا. هل أفتى بها الشيخ شلتوت ؟ وربما يتمثل هذا التراجع، فى تصريح أخير للقرضاوى فى محاضرة باتحاد علماء المسلمين بالقاهرة مؤخرا خلخل فيه أساس أطروحة التقريب والسند الشيعى الذى يتباهى به دعاة التقريب وهو فتوى الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الراحل الذى أجاز فيها التعبد على مذهب الشيعة الإمامية، وأكد القرضاوى أنه جمع تراث الشيخ شلتوت كله ولم يجد تلك الفتوى واتفق معه رفيقه فى تلك المهمة الدكتور أحمد العسال رئيس الجامعة العالمية الإسلامية بإسلام آباد سابقا، وكذلك بعض من العلماء مثل الدكتور حامد أبو طالب عميد كلية الشريعة السابق. لكن الدكتور عبدالله القمى الأمين العام لدار التقريب بين المذاهب الإسلامية أرسل ل«الشروق» صورة طبق الأصل من الفتوى المشكل، مؤكدا احتفاظه بأصلها، وبتوقيع «شيخ الجامع الأزهر محمود شلتوت» ومؤرخة ب 16 من شوال سنة هجرية 1379 الموافق 12 من أبريل سنة 1960ميلادية، مثمنا الجهود التى قادها الشيخ شلتوت رحمه الله فى التقريب بين المذاهب الإسلامية. وجاء فيها «أن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب أهل السنة»، وفى نهاية الفتوى كتب شلتوت إلى محمد تقى القمى سكرتير جماعة التقريب بين المذاهب الاسلامية: «...فيسرنى أن أبعث إلى سماحتكم بصورة موقع عليها بإمضائى من الفتوى التى أصدرتها فى شأن جواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية راجيا أن تحفظوها فى سجلات دار التقريب بين المذاهب الإسلامية التى أسهمنا معكم فى تأسيسها». ونفس الفتوى أرسلها إلينا الكاتب الصحفى حسن صبرا رئيس تحرير مجلة الشراع اللبنانية، وقال: إن الفتوى صدرت فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وفى عصر الوحدة بين مصر وسوريا، وقال إن المسألة تجاوزت التعبير عن التقارب السياسى بين مصر وإيران إلى توكيد الوحدة الإسلامية بين المسلمين وتقدير المصريين لآل البيت. وقال صبرا نقلا عن الرئيس السابق للمحكمة الشرعية الجعفرية فى لبنان، تأكيده اهتمام عبدالناصر بجمعية التقريب وتذليل أى عقبات تقابلها، مؤكدا استمرار جمعية التقريب بين المذاهب الإسلامية التى نشأت مع زواج الملك فاروق والسيدة فوزية بهلوى حتى بعد قيام ثورة يوليو 52، ولم تتأثر بعد أن قطعت مصر الناصرية علاقتها مع شاه إيران عام 1963. تعبدالشيعة على مذهب السنة ! وفى السياق ذاته تساءل القرضاوى وعدد من علماء السنة عن إحجام الشيعة عن إصدار فتوى بجواز التعبد على مذهب أهل السنة، كما سئل السيد محمد حسين فضل الله المرجع الشيعى، المعروف فى أحد البرامج التليفزيونية: هل يجوز التعبد بالمذهب السنى عند الشيعة ؟ فلم يجب وراح يتحدث عن المشترك بين السنة والشيعة، وعن الاجتهاد الفقهى، وعن الخطوط الاجتهادية، ولم يتجرأ على إصدار فتوى مقابلة، على رغم أنه سئل هذا السؤال ثلاث مرات فى تلك الحلقة، وفى كل مرة كان يتكلم فى العموميات! أما الدكتور أحمد راسم النفيس أحد الشيعة المعروفين فى مصر، فأجاب عن سؤال القرضاوى بسؤال استنكارى قائلا: عن أى مذهب سنى تتحدثون ! فهناك عدة مذاهب سنية (الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية) وغيرها من المذاهب التى اندثرت، والآن هناك الوهابية أو السلفية، «و كل من هؤلاء يزعم لنفسه الحكمة والصواب وأن لديه فصل الخطاب»! ورأى أنه ليس مطلوبا من أحد أن يعترف بصحة هذه المذاهب، أو بمعنى أدق صحة كل ما ورد فيها من أحكام، إذ لا يمكن عقلا ولا نقلا أن تكون كلها صحيحة رغم اختلافها والمطلوب هو الاعتراف الواقعى بمعنى أن هذه المذاهب قد بنيت على اجتهاد فقهى يصح أو لا يصح، وقال «وهو ما نطالب به من يتنطعون لإنكار المذهب الإمامى!». وقال: إنه من الناحية الواقعية والتاريخية فالشيعة كانوا وما زالوا يعترفون بهذه المذاهب من الناحية الواقعية ولا يجرمون من يتبعها بل يفسحون لهم المجال لأداء شعائرهم ويساعدونهم على بناء مساجدهم.و«لمن لا يصدقنا فليسأل كتب التاريخ عمن بنى مسجد (الطرطوشى) القائم الآن فى الإسكندرية لصاحبه الإمام الطرطوشى المالكى»، وأكد أنه «لا حاجة بنا لمزيد من الأمثلة القديمة والمعاصرة على أن الشيعة يؤمنون بحرية الاختيار المذهبى لهم ولغيرهم وأن الأمر لم يكن بحاجة لفتوى». التقارب سنى فقط ! بعض فقهاء السنة يرى أن الشيعة لم يصدروا فتوى للتعبد؛ لأنهم لا يقدمون خطوات إيجابية فى هذا الشأن، فرأى الدكتور حامد أبو طالب عميد كلية الشريعة والقانون سابقا بالأزهر أن التقريب أو التقارب حدث ويحدث من ناحية السنة فقط، ولا نجد خطوات مماثلة من أتباع المذهب الشيعى للتقارب، بل على العكس نجد من يعلق التقريب على الإيمان أولا بالإمامة ونحوها ويكيل السباب والشتائم للصحابة والسلف الصالح، وفوق ذلك من يدعو أهل السنة صراحة إلى ترك مذاهبهم والانتقال إلى التشيع. ويقول أبو طالب: إن الدستور الايرانى الصادر بعد الثورة الإيرانية اعتمد المذهب الجعفرى وحده مذهبا للدولة، بل وحصن النص على ذلك وجعله نصا لا يجوز تغييره فيما يطرأ على الدستور من تغييرات، مما يعنى عدم وجود تقارب، ويظهر الراغبين والداعين إلى التقريب بين المذاهب فى صورة أذلاء يستجدون التقرب والرضا والحماية من أتباع مذهب آخر! ويحدد عددا من الخطوات يراها بداية لتحقيق «تقارب بين أتباع المذاهب وليس التقريب بين المذاهب»، الذى يراه مستحيلا، حيث يشمل المذهب الشيعى على «ما لا يعقل، وما يستتبعه من سب الصحابة رضوان الله عليهم وتجريحهم»، وهو غير مقبول ويؤذى مشاعر أهل السنة. ومن أهم هذه الخطوات مراعاة شعور الآخرين، وعدم استباحة أعراض صحابة الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالتجريح والإهانة صباح مساء، والابتعاد عن العبارات الاستفزازية والتصريحات النارية كالكفر والشرك والفسق والعمالة والخيانة ونحو ذلك. والابتعاد بالتقارب عن السياسة، لأن كثيرا من السياسيين يسخّرون الدين للوصول لأهدافهم، ومن هنا فإن من يرصد خريطة التقريب يجدها تتناسب تناسبا طرديا مع علاقة الدول الإسلامية مع بعضها البعض، وليس بعيدا عندما تقاتل العراق مع إيران، أصبح الشيعة أنذاك أعداء للمسلمين لا يوثق فيهم ولا يتولون مناصب بل ويكفرونهم، وهكذا. ويشير إلى أن إقامة علاقات متوازنة بين الدول الإسلامية على أساس الاحترام المتبادل بين كبيرها وصغيرها، كما يجب أن تنحى الدول الكبرى أطماعها فى ضم الدول الصغرى أو فرض وصايتها وهيمنتها عليها وإخضاعها لإرادتها. ويدعو إلى محاربة الطائفية والعنصرية، مستنكرا أوصافا يتم ترديدها وتثير الفتنة مثل وصف الفراعنة للمصريين والفارسيين للإيرانيين والبربر لغرب أفريقيا، ورفع شعارات وإعلائها على الإسلام الحقيقى كالصوفية والسلفية. استهداف شيعة مصر! الأمين العام للمجلس الأعلى لآل البيت الشيعى المعروف محمد الدرينى، أكد أن المشهد كله لا يعنى سوى استهداف جزء من مصر، وهم الشيعة وقال: إننى أدعو القرضاوى لمراجعة تصريحاته فيما يخص فتوى الشيخ شلتوت الموجودة فى مجلة الأزهر الرسمية فى عدد (جمادى الآخرة ورجب 1409 )، وقال إن كلام القرضاوى ينزع الغطاء الشرعى عن شيعة مصر، وقال إن المشهد برمته سوف يؤدى إلى إحلال الصراع السنى الشيعى محل الصراع العربى الصهيونى. والتخديم على ذلك بطرح دينى وسياسى وإعلامى وشن حملات ممولة من بعض الدول للحض على الكراهية.