(تمهيد) لن أكتب "مقالة اليوم" بأسلوب الوصف، ولن أتدخل في الصياغات إلا بإشارات التوضيح، وملاحظات التنبيه القصيرة، سأكتفي بنصوص من "أخبار الجبرتي" بنفس صياغاتها نقريباً.. نحن الآن في عقد التحولات العظيمة من 1791 وحتى مطلع القرن التاسع عشر، ولنترك نصوص المؤرخ الفريد (الذي عاش كمواطن ومؤرخ في تلك الفترة) ترسم لنا الصورة الدراماتيكية البائسة. (النص الأول) خطاب حمله سفير روسيا (بلاد الموسقو كما يذكرها الجبرتي) إلى الأمراء المصرية، وقرأ مضمونه المترجم في اجتماع بالديوان العالي بالقلعة وجاء فيه: إنه بلغنا صنع بن عثمان الخائن الغدار معكم ووقوع الفتن فيكم وقصده أن بعضكم يقتل بعضًا ثم لا يبقى على من يبقى منكم ويملك بلادكم ويفعل بها عوائله من الظلم والجور والخراب فإنه لا يضع قدمه في قطر إلا ويعمه الدمار الخراب فتيقظوا لأنفسكم واطردوا من حل ببلادكم من العثمانية وارفعوا بنديرتنا واختاروا لكم رؤساء منكم.. حصنوا ثغوركم وامنعوا من يصل إليكم منهم إلا من كان بسبب التجارة ولا تخشوه في شيء فنحن نكفيكم مؤنته وانصبوا من طرفكم حكامًا بالبلاد الشامية كما كانت في السابق ويكون لنا أمر بلاد الساحل والواصل لكم كذا وكذا مركبًا وبها كذا من العسكر والمقاتلين، وعندنا من المال والرجال ما تطلبون وزيادة على ما تظنون.. تعليق: هذه صورة مصر بالروسي.. فريسة يتنازعها أمراء المماليك وابن عثمان الخائن الغدار، في الوقت الذي كان نابليون يجهز لحملته العسكرية، وتحركات أخرى تتربص بمصر من بريطانيا إلى الهند التي وصل منها وفد يحمل هدية للوالي وأخرى للسلطان العثماني في نفس العام.! (النص الثاني) غيمت السماء غيمًا مطبقًا وسحت أمطار غزيرة كأفواه القرب مع رعد شديد الصوت وبرق متتابع متصل قوي اللمعان يخطف بالأبصار مستديم الاشتعال واستمر ذلك بطول ليلة الجمعة ويوم الجمعة والأمطار نازلة حتى سقطت الدور القديمة على الناس ونزلت السيول من الجبل حتى ملأت الصحراء وخارج باب النصر وهدمت الترب وخسفت القبور وصادف ذلك اليوم دخول الحجاج الى المدينة فحصل لهم غاية المشقة وأخذ السيل صيوان أمير الحاج بما فيه وانحدر به من الحصوة الى بركة الحج وكذلك خيام الأمراء وغيرهم وسالت السيول من باب النصر ودخلت البلد وامتلأت الوكائل بالمياه وكذلك جامع الحاكم وقتلت أناس في حواصل الخانات وصار خارج باب النصر بركة عظيمة متلاطمة بالأمواج تعليق: كأن الأمطار كانت دموع السماء حزناً على ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد، وعلى ما سوف يأتي من أهوال الطاعون والقحط..! أمطار ما قبل الجفاف تحولت إلى بركة تحت قلعة الجبل (النص الثالث) في شهر ربيع الأول كمل بناء بيت اسماعيل بك (شيخ البلد النهاب الظالم) وبياضه، وأتمه على هيئة متقنة، وترتيب في الوضع، ونقل إليه قطع الأعمدة العظام التي كانت ملقاة في مكان الجامع الناصري الذي عند فم الخليج وجعلها في جدرانه، وبنى به مقعدًا عظيمًا متسعًا ليس له مثيل في مقاعد بيوت الأمراء في ضخامته وعظمه، وهو في جهة البركة وغرس بجانبه بستانًا عظيمًا وظن أن الوقت قد صفا له. تعليق: يعجبني تعليق الجبرتي نفسه: … وظن أن الوقت قد صفا له..! (النص الرابع) في أواخر شهر جمادى الأولى أشيع في الناس أن في ليلة السابع والعشرين نصف الليل يحصل زلزلة عظيمة وتستمر سبع ساعات ونسبوا هذا القول الى أخبار بعض الفلكيين.. فلما كانت تلك الليلة خرج غالب الناس الى الصحراء والى الأماكن المتسعة مثل بركة الأزبكية والفيل وخلافهما ونزلوا في المراكب ولم يبق في بيته إلا من ثبته الله وباتوا ينتظرون ذلك الى الصباح فلم يحصل شيء وأصبحوا يتضاحكون على بعضهم. تعليق: لأن كثرة الحزن تعلم البكاء، فقد كان الناس ينتظرون البلاء قبل وقوعه، حتى وإن تغير اسمه، وتعيرت صفته مقطع من لوحة الطاعون للفنان الفرنسي انتوني جروس- متحف اللوفر (النص الخامس) ابتدأ أمر الطاعون وداخل الناس منه وهم عظيم... زاد أمره، وقوي عمله بطول رجب وشعبان، وخرج عن حد الكثرة، ومات به ما لا يحصى من الأطفال والشبان والجواري والعبيد والمماليك والأجناد والكشاف والأمراء ومن أمراء الألوف الصناجق نحو اثني عشر صنجقًا،، ومنهم اسماعيل بك الكبير (…) ومات الآغا والوالي في أثناء ذلك فولوا خلافهما فماتا بعد ثلاثة أيام فولوا خلافهما فماتا أيضًا، واتفق أن الميراث انتقل ثلاث مرات في جمعة واحدة (…) ولم يبق للناس شغل إلا الموت وأسبابه فلا تجد إلا مريضًا أو ميتًا أو عائدًا أو معزيًا أو مشيعًا أو راجعًا من صلاة جنازة أو دفن أو مشغولًا في تجهيز ميت أو باكيًا على نفسه موهومًا ولا تبطل صلاة الجنائز من المساجد والمصليات ولا يصلي إلا على أربعة أو خمسة أو ثلاثة وندر جدًا من يشتكي ولا يموت (…) ولما مات اسمعيل بك تنازع الرياسة حسن بك الجداوي وعلي بك الدفتردار ثم اتفقوا على تأمير عثمان بك طبل تابع اسمعيل بك على مشيخة البلد وسكن ببيت سيده. تعليق مكرر: لقد ظن أن الوقت قد صفا له..! غموض القاهرة من الجانب الآخر للنيل – من كتاب "وصف مصر" (النص السادس) تواردت الأخبار بأن الأمراء القبالي (ابراهيم بك ومراد بك) تحركوا إلى الحضور الى مصر، فإنه لما حصل ما حصل من موت اسماعيل بك والأمراء حضر مراد بك من أسيوط الى المنية (المنيا) وأما ابراهيم بك فإنه لم يزل مقيمًا بمنفلوط ومنتظراً الرد على المكاتبات التي أرسلها وفيها: "أننا في السابق طلبنا الصلح مع إخواننا والصفح عن الأمور السالفة فأبى المرحوم اسماعيل بك ولم يطمئن لطرفنا ولكل شيء نصيب والأمور مرهونة بأوقاتها والآن اشتقنا الى عيالنا وأوطاننا وقد طالت علينا الغربة وعزمنا على الحضور الى مصر على وجه الصلح وبيدنا أيضًا مرسوم من مولانا السلطان وصل إلينا صحبة عبد الرحمن بك بالعفو والرضا والماضي لا يعاد ونحن أولاد اليوم وأن أسيادنا المشايخ يضمنون غائلتنا". تعليق: أسيادهم المشايخ دائما يضمنون غائلة الباطشين النهابين..! (النص السابع) فلما قرئت تلك المكاتبة التفت الباشا الى الشيخ العروسي الذي قال: "إن كان التفاهم بينهم وبين أمرائنا المصرية الموجودين الآن، فإننا نترجى عندهم (نتوسط لهم نشفع) وإن كان ذلك بينهم وبين السلطان فالأمر لنائب مولانا السلطان"، واتفق الرأي على مكاتبة جواب، حاصله أن الذي يطلب الصلح يقدم الرسالة بذلك قبل قدومه وهو بمكانه وذكرتم أنكم تائبون وقد تقدم منكم هذا القول مرارًا ولم نر له أثرًا فإن شرط التوبة رد المظالم وأنتم لم تفعلوا ذلك ولم ترسلوا ما عليكم من الميري في هذه المدة فإن كان الأمر كذلك فترجعوا الى أماكنكم وترسلوا المال والغلال ونرسل عرضحال الى الدولة بالإذن لكم فإن الأمراء الذين بمصر لم يدخلوها بسيفهم ولا بقوتهم وإنما السلطان هو الذي أخرجكم وأدخلهم وإذا حصل الرضا فلا مانع لكم من ذلك فإننا الجميع تحت الأمر وعلم على ذلك الجواب الباشا والمشايخ وسلموه الى السيد عمر مكرم ليسافر به إلى ابراهيم ومراد بك. تعليق: هكذا عاد ابراهيم ومراد بك إلى مركز السلب والنهب، ودخلت أتباعهم إلى القاهرة بالحملات والجمال شيء كثير جدًا … ولنقرأ من "أخبار الجبرتي" ما يشير إلى انقطاع الخير على قدم الواردين انخفض النيل بمقدار ذراعين فانتشر الجفاف (النص الثامن) هبط النيل.. ووقف جريان الخليج والترع، وشرقت الأراضي فلم يرو منها إلا القليل جدًا، فارتفعت الغلال من السواحل والرقع، وضجت الناس وأيقنوا بالقحط وأيسوا من رحمة الله، وغلا سعر الغلة من ريالين الى ستة، وضجت الفقراء وعيطوا على الحكام، واستمر الأمر في شدة من الغلاء وتتابع المظالم وخراب البلاد وشتات أهلها وانتشارهم بالمدينة حتى ملؤوا الأسواق والأزقة رجالًا ونساء وأطفالًا يبكون ويصيحون ليلًا ونهارًا من الجوع ويموت من الناس في كل يوم جملة كثيرة من الجوع، واستمر هبوط النيل نحو ذراعين فارتجت الأحوال وانقطعت الآمال وكان الناس ينتظرون الفرج بزيادة النيل فلما نقص انقطع أملهم واشتد كربهم واختفت الغلال من السواحل، وغلت أسعارها حتى بلغ الأردب ثمانية عشر ريالًا.. ولم يبق للناس شغل ولا حكاية ولا سمر بالليل والنهار في مجالس الأعيان وغيرهم إلا مذاكرة القمح والفول والأكل ونحو ذلك وشحت النفوس واحتجب المساتير وكثر الصياح والعويل ليلًا ونهارًا فلا تكاد تقع الأرجل إلا على خلائق مطروحين بالأزقة وإذا وقع حمار أو فرس تزاحموا عليه وأكلوه نيًا ولو كان منتنًا حتى صاروا يأكلون الأطفال ولما انكشف الماء وزرع الناس البرسيم ونبت أكلته الدودة وكذلك الغلة فقلب أصحاب المقدرة الأرض وحرثوها وسقوها بالماء من السواقي والنطالات والشواديف واشتروا لها التقاوي بأقصى القيم وزرعوها فأكله الدود أيضًا ولم ينزل من السماء قطرة ولا أندية ولا صقيع بل كان في أوائل كيهلك شرودات وأهوية حارة ثقيلة ولم يبق بالأرياف إلا القليل من الفلاحين وعمهم الموت والجلاء. تعليق: لم يمت الفقراء وحدهم من الجوع، لقد مات الكثير من الأمراء والشيوخ لأسباب أخرى، وكان من بين الراحلين شيخ الأزهر، ونعاه الجبرتي في نرجمة طويلة بدأها بهذا المفتتح الكريم: ورد موارد الموت علامة العلوم والمعارف، وروضة الآداب الوريقة وظلها الوارف، جامع المزايا والمناقب، شهاب الفضل الثاقب، الإمام العلامة الشيخ أحمد ابن موسى بن داود أبو الصلاح العروسي الشافعي الأزهري.. ولننتظر ما حملته تلك الأيام الصعبة لمصر المحروسة، من تحولات عظيمة ودراما أليمة. [email protected]