(1) كانت ثورة شعب مصر تدق أبواب القرن ال19 بعنف، بحيث لا يمر يوم دون تمرد، وقتال، ومواجهات للمظالم التي جعلت "النهب" هو السياسة الأولى للسلطة بكل تشعباتها، ولكل من يحمل سيفاً أيضا، حتى أن العُربان وبحارة المراكب كانوا يسرقون وينهبون ويقطعون الطرق ويصادرون كل ما مع الناس، فقد نهب حمزة كاشف المعروف بالدويدار سوق امبابة، بعد أن استأذن الأمير حسن بك الجداوي، للقبض على صائغ نصراني بحجة تجرأه على حريمه، فعذبه أيامًا وقلع عينيه وأسنانه وقطع أنفه وشفتيه وأطرافه حتى مات، فأمر حسن بك بمصادرة حانوته بما فيه حتى مصاغ الناس التي كانت موجودة للتصليح أو الطلاء، ونهب العربان قافلة للتجار والحجاج مكونة من 6 آلاف جمل ما بين قماش وبهار وبن وأقمشة وبضائع وسلبوا حتى الملابس التي يرتديها الناس، وأسروا النساء وأخذوا ما عليهن ثم باعوهن لأصحابهن عرايا..! (2) المشكلة لم تتوقف عند حادثة سلب ونهب، لكن البعد السياسي فيها، أن وفدا من عربان العيايدة الذين نهبوا القافلة جاء إلى القاهرة، وقابل شيخ البلد اسماعيل بك، وتم الاتفاق على المصالحة مقابل أموال دفعوها، والمضحك أن وفدا من الأكابر والتجار ذهب الى اسماعيل بك للشكوى مما نزل بهم، فماذا فعل؟ تعالوا نقرأ إجابة الجبرتي: فوبخهم وأظهر الشماتة فيهم، وخرجوا من بين يديه آيسين.! مداهمات يومية للمماليك والألاضيش أسواق القاهرة (3) تكرر القتال بين بحارة المراكب وبين طائفة المغاربة الحجاج النازلين بشاطئ النيل ببولاق، وقتل العشرات من الطرفين، بسبب فسق البحارة العلني مع النساء، وفساد تصرفاتهم مع الجميع، حتى أنهم قتلوا أكثر من 30 فلاحاً من باعة البطيخ للخلاف على ثمن بطيخة، ولما وصلت الشكاوي من أفعال بحارة المراكب إلى اسماعيل بك، أمر بالنداء في الأسواق بخروج المغاربة الحجاج من المدينة، و"كل من آواهم يستأهل ما يجري"، ولم يقبل شفاعة في ذلك ولا رجاء، وأقسم بقتل كل من يمكث منهم بعد ثلاثة أيام، فتجمعوا واشتروا أسلحة، ولجا بعضهم الى الشيخ العروسي، فلم يستطع التدخل، فزجره العامة والمجاورين في الأزهر، وثاروا عليه وسبوه، وسحبوه على الأرض، حتى تدخل فئة من الشوام لتهدئة الموقف، ومع تزايد البطش، واشتداد العسف في الرعية، واستباحة كل شئ، تهاوت صورة الشيخ العروسي وعدد من كبار الشيوخ الذين لم يستطعوا التدخل بجدية لوقف هذه الظلم، فكان "العامة يصيحون عليه ويسمعونه الكلام غير اللائق" حسب تعبير الجبرتي. (4) كان هوس "جمع الأموال" قد وصل إلى حالة سعار مجنونة، وانتشر "الجلابة" في كل شارع وحارة يطالبون بالمقرر على أكثر من 72 حرفة حتى بياعي الفسيخ، ويكفي أن نقرأ هذه الوصف لصاحب "عجائب الآثار" لنعرف إلى أي حد وصلت مأساة المصريين في تلك الفترة: "دهى الفلاحون وأهل القرى بهذه الداهية، على ما هم فيه من موت البهائم وهياف الزرع وسلاطة الفئران الكثيرة على غيطان الغلة..، وما هم فيه من تكلف المشاق بسبب موت البهائم، فأداروا السواقي بأيديهم وعوافيهم… وتغيرت قلوب الخلق جميعًا (…) وخاب ظنهم.. وتمنوا زوال "الحاكم" وجماعته وعساكره الذين زاد فسقهم وشرهم وطمعهم وانتهكوا حرمة المصر وأهله إلى الغاية". (5) على المستوى السياسي، تحولت سلطة الحكم إلى عصابة نهب، لا تقدم خدمة ولا تمهد طريق ولا تحمي رعية، وعلى المستوى الاقتصادي نودي على صرف الريال الفرانسة ب100 نصف فضة، ووصل في "السوق السودا" إلى 110، فتوقفت الأحوال في السواق، وعم الكساد، وانتشر الفساد، واختلطت أنواع الجرائم بشكل يهدد الحياة الطبيعية للناس، ففي أحد الأيام تم العثور على 70 امرأة مقتولة ومدفونة بإسطبلات الخيل في بيت الأمير يوسف بك، بعد أن سكنه أحد كبار البحارة الغامضين ويدعى أحمد القبطان المشهور باسم "حمامجي أوغلي"، ونودي على النساء بعدم الخروج إلى الشوارع والأسواق، وتضررت صاحبات الحرف منهن مثل البلانات والدايات وبياعات الغزل والقطن والكتان، وحدث أن سوق البهار احترق وتحول إلى كوم تراب بعد انفجار برميلين من البارود الانجليزي، في دكان عطار يدعى أحمد ميلاد، كان قد اشتراهما ليتاجر فيهما، وبرغم المأساة التي راح ضحيتها أكثر من 100 قتيل، حاصر الجند السوق المدمر، واستولوا على ماتبقى من البضائع والنقود، وما سقط من الدور من فرش وأوان، ومصاغ النساء، وغير ذلك، حتى الحوانيت التي لم يصبها الهدم فتحوها وأخذوا ما فيها وأصحابها ينظرون، ومن طلب شيئًا من متاعه شيئاً، يقال له هو عندنا حتى تثبته، هذا إذا كان صاحبه ممن يخاطب ويصغى إليه! وطردوا الناس من السوق حتى لا يمكنون أحدًا من أخذ شيء!. حالة من الكساد بعد اضطراب أحوال البلاد (6) مما أورده الجبرتي أن اسماعيل بك وسط كل هذه المصائب اليومية دعا الأمراء إلى اجتماع الديوان بالقلعة وأخرج قوائم مزاد البلاد التي تأخر على ملتزميها الميري فتصدر لشرائها كتخداه محمد آغا البارودي فاشترى نحو سبعين بلدًا للتحصيل منها مقابل حصة معلومة، وسأل شيخ البلد: هل من الواجب قتالهم إذا لم يدفعوا؟. قال: نعم فإن المخالفين إذا نقضوا عهد السلطان، يلزم قتالهم، لكن ليس في خزينة السلطان ما يمكن صرفه للعسكر، فكل منكم يقاتل عن نفسه. فقال أحد الأمراء: ونحن أي شيء تبقى عندنا حتى نصرفه؟ لقد صرنا كلنا شحاتين لا نملك شيئًا. فقال له الباشا: هذا الكلام لا يناسب، ولا ينبغي أنك تكسر قلوب العسكر بمثل هذا الكلام، والأولى أن تقول لهم أنا وأنتم شيء واحد.. إن جعت جوعوا معي وإن شبعت اشبعوا معي… وبكى اسماعيل بك بالمجلس، ونهنه في بكائه..!! نصوص الجبرتي عبرت نفس السياسات التي نعيشها، ونفس الأساليب، لكن من غير العبارات، فلم يقل اسماعيل بك "صبح على مصر بجنيه، ولم يقل وهو "ينهنه" لوينفع أتباع..!! لكنه في تلك الليلة ضرب أعناق خمسة من أتباع الشرطة (من فرقة البصاصين" لأنهم أخذوا عملة وأخفوها عنه، ولم يشركوه معهم، ورفع قيمة "التفريدة" المقررة على البلاد والقرى، فجعلها على كل بلد مائة دينار وعشرة، خلاف تكاليف السلطة المفروضة من قبل، وحق الطرق وغير ذلك، وعين لقبضها خازنداره شخصياً، ولما ذهب مدعواً إلى بيت الشيخ البكري للاحتفال بالمولد النبوي، رأى حارة النصارى، فسأل: ماهذا؟ قيل له: إنها بيوت النصارى فأمر بهدم البيوت والمناداة على سكانها بالمنع من ركوب الحمير، والتضييق عليهم، حتى سعوا في المصالحة ودفعوا 35 ألف ريال، فتركهم لحالهم..! مكاري الحمير عاطل بعد قطع الطرق وتعطل الاسفار (7) ولما تمادى طمع الأمراء والألاضيش في تحصيل أكبر قدر من الأموال لحسابهم الشخصي، وانتشرت العصابات والميليشيات، أرسل اسماعيل بك الى عرب البحيرة والهنادي، واتفق معهم على إطلاق يدهم في النهب من رشيد الى الجيزة، مقابل دفع حصص ثابتة، فانتشروا ينهبون البلاد ويأكلون الزروعات ويضربون المراكب في البحر ويقتلون الناس حتى قتلوا في يوم واحد من بلد النجيلة أكثر من 300 إنسان، وكذلك اتفق مع عرب الشرق والجزيرة بإطلاق يدهم في البر الشرقي، وأعطى المنوفية لرسلان باشا النجار، فتعطل السير برًا وبحرًا، ولو بالخفارة (الحرس) حتى أن الإنسان كان يخاف أن يذهب من المدينة الى بولاق أو خارج باب النصر، وضاق الحال بالناس وتعطلت الأسفار وانقطع الجالب (الوارد) من قبلي وبحري، فاضطربت الأمور وشح الخبز من الأسواق وزاد سعر الغلة ضعف الثمن. وانتشرت العبارة الشهيرة على لسان الناس: كده مش هتمشي.. والثورة مستمرة… [email protected]