(1) في نهاية القرن السابع عشر كانت مصر قد وصلت إلى ما نحن فيه الآن، أشلاء دولة، ينهب فيها الجميع، ويتحكم فيها كل من يركب حصاناً أو بغله، أو يحمل سيفا أو نبوتاً، أو يتكلم باسم من يحمل السيف والنبوت، وفي نهاية القرن وتحديدا عام 1691، وصلت إلى القاهرة مسيرة احتجاج من أهالي البحيرة، وتوجهوا إلى الأزهر، حيث انضم إليهم الكثير من أهالي القاهرة، وعدد من المشايخ، وتوجهوا جميعا إلى القلعة لتقديم حجة طويلة أعدها قاضي البحيرة بتعديات العربان المتكررة على الأهالي، حيث نهبوا وخطفوا النساء وقتلوا كل من تصدى لهم، ولم يحرك ابراهيم بك حاكم البحيرة ساكناً، وطلب المحتجون من الوالي علي بك عزل ابراهيم بك وإصدار فرمان يجيز لهم القتال دفاعا عن أرضهم وعرضهم. كانت هذه المسيرة مفتتحا لسلسلة من الاحتجاجات الشعبية المتوالية على الظلم والقهر، والنهب بلا حدود، وهكذا أصبح القرن الثامن عشر هو قرن الاحتجاجات وثورات الأهالي، على عكس ما يشاع أن الشعب المصري يقبل بالظلم والخنوع لبطش الحكام، فبعد أعوام قليلة تكررت الانتفاضة الشعبية في بني سويف عام 1697، واندلعت انتفاضة عارمة في القاهرة، نهاية عام 1715 احتجاجا على رفع الأسعار، وصك العملات بمقادير تضر بالتجار ومعيشة الناس، وتصاعد الغضب إلى إضراب عام، حيث تم إغلاق المتاجر والأسواق، وتوجه وفد من شيوخ الأزهر وكبار التجار لمقابلة الوالي عبدي باشا، الذي أعاد المعاملات المالية القديمة. وقد أدى نجاح المعممين وكبار التجار في هذه الوساطة إلى زيادة ارتباط الأهالي بعلمائهم والرجوع إليهم في كل كبيرة وصغيرة، وخلال 7 أعوام تقريباً، استطاع تحالف الشيوخ وكبار التجار لعب دور الوساطة بين السلطة العسكرية والشعب بدون تذمر كبير، وبدون احتجاجات واسعة، حيث دانت الأمور للأمير القوي محمد بك أبو الدهب، وبعد وفاته عام 1775م انقسم رجاله إلى فريقين، فريق قوي يملك السلطة بقيادة الحاكم الجديد اسماعيل بك، وفريق يضم مراد بك وابراهيم بك واتباعهما، وقد سمح لهما الوالي بالتصرف في بعض المناطق وتحصيل الإتاوات، وتسخير الناس، طالما لا يؤثر ذلك على سلطاته وحصصه الأميرية. في هذه الفترة شاعت المظالم بشدة، وتوسع الأمراء والجند في اغتصاب الدور، وسلب كل ما تطاله أياديهم، وحدث في عام 1779 أن مملوكاً من أتباع الأمير يوسف اغتصب دارا موقوفة لطلبة العلم المغاربة، ولما اشتكوا للأمير يوسف أيد مملوكه، وأرسل جنده لاعتقال الشيخ عباس المغربي أحد قادة الاحتجاج، فدافع المجاورين المغاربة عن شيخهم وطردوا مماليك الأمير يوسف، وأبلغوا الشيخ أبو البركات أحمد الدردير شيخ المالكية بما حدث خشية انتقام الأمير يوسف، وأرسل الشيخ الدردير رسالة للأمير مع رسولين من مجاوريه، لكن الأمير اعتقل رسولي الشيخ الدردير، فأغلق الشيخ الأزهر، وصعد المجاورين إلى المآذن يكبرون ويلعنون ظلم المماليك، وكان هذا النداء يعمي بدء الإضراب والاحتجاج فأغلق التجار الحوانيت، وهجر الناس السوق وتجمهروا في الأزهر. ولما علم الأمير يوسف بذلك أطلق سراح الرسولين، ونزل ناظر الأزهر ابراهيم أغا ليأمر بفتح المتاجر وعمل الأسواق، لكن الناس أهملوه، فلم يستجب له أحد، وقالوا نريد الوالي اسماعيل بك، أو الأمراء الكبار ابراهيم ومراد بك، فشعر بإهانة، وبعد أن مضى بساعات قليلة عاد مع فرقة من جنده ليفتح الحوانيت بالقوة، فامتنع الناس وحدثت مواجهات قُتل فيها ثلاثة من المجاورين، واشتعل الموقف، وتوقفت الحياة في القاهرة تماما، فاضطر الوالي اسماعيل بك (شيخ البلد) للنزول والتصرف، وأقام في المدرسة الأشرفية قرب الأزهر، وطلب الشيخ أبو الأنوار السادات، وتقرب منه ليكون واسطة حل مع طلبة العلم في الأزهر، ومال كبار الشيوخ لتلبية طلب الوالي بفض التجمهر والاضراب، لكن المجاورين وأواسط الشيوخ رفضوا ذلك، إلا بعد تعهد مكتوب برفع الظلم، والتوقف عن السلب والنهب، ورأى كبار الشيوخ أن يستفيدوا من حماسة المجاورين، فوقفوا في صفهم بعد أن أضافوا عددا من الامتيازات التي تخصهم في الرواتب والمخصصات. كان الشيخ السادات ملازما لشيخ البلد في تنقله بين المدرسة الأشرفية وجامع المؤيد، ونصحه بكتابة التعهد على أن يضمنه شيخ السادات بنفسه، ليطمئن الناس ويفضوا ثورتهم، ولما وصل التعهد إلى المعممين المعتصمين، انقسموا بشدة، رأه الكبار ومن معهم كافيا ومعقولا، ورآه المجاورون، وعدد من المالكية أنصار الشيخ الدردير إنه مجرد ورقة لا أصل لها، وحيلة لا تنطلي على عاقل، إذ يسهل الرجوع فيها، وامتدت الثورة، وتصاعدت جهود الوساطة، وأعلن شيخ البلد أنه سيعطى للعلماء نصيب أكبر في إدارة شؤون الجامع الكبير دون تدخل مباشر، وأرسل الرواتب للعلماء وعليها بعض الزيادات، ومنح بعض المجاورين المعارضين وظائف ورواتب، ووافق على عزل ابراهيم أغا من نظارة الأزهر وعين مكانه ابراهيم بك، ومنعه هو ووالي القاهرة والمحتسب من المرور في الشوارع المحيطة بالأزهر، وقد كان لهذا كله تأثير كبير في قبول الصلح، وإنهاء الاحتجاج. حياة الناس بالقاهرة غضب ابراهيم أغا والوالي من هذا الاتفاق، وبعد أيام تعمدا المرور بموكبيهما من أمام الأزهر، فأرسل العلماء شكوى إلى ناظر الأزهر الجديد ابراهيم بك ضد هذا الاستفزاز المخالف للاتفاق المكتوب، فرد برسالة قال فيها: "إن الطرق يمر بها البار والفاجر، ولا غنى لرجال الحكم عن المرور في الطرقات". صمت كبار الشيوخ، ما شجع الأغا على الانتقام، فقد أرسل رجاله للبحث عن "حسن المدابغي" العامل الثائر الذي حرض الناس ضد الأغا فطاردوه هو وفرقته وطردوه من حي الغورية، وبالفعل قبض رجال الأغا على حسن المدابغي، واقتادوه إليه حيث أمر بضربه حتى فاضت روحه، ونعاه الجبرتي في سطر واحد قال فيه "شاب ذو همة عالية.. ورجل شريف من أهل البلد". كانت القاهرة تتعلم الثورة ضد الظلم في هذه اليام، ويتعلم شبابها التنسيق والتضامن، كما يتعلمون تكتيك المواجهات، والضغط على السلطة بالتجمهر والإضراب، وكان القدر يساعدهم أيضا، ففي العام التالي انقلب ابراهيم بك على شيخ البلد اسماعيل بك، الذي هرب إلى الصعيد ومنها إلى استانبول، وتولي ابراهيم بك مشيخة مصر مقتسما السلطة مع مراد بك، وبعد أربع سنوات من استشهاد حسن المدابغي تحت التعذيب، اختلف الأمير ابراهيم بك مع الأغا، وأمر بالقبض عليه وضربه بالعصي حتى الموت، وإلقاء جثته في النيل عند ساحل شبرا. حياة الناس بالإسكندرية كل هذه الاحتجاجات كانت تمهيداً لأطول ثورة شعبية، حيث عاث ابراهيم بك وصاحبه مراد فسادا ونهبا في كل أنحاء بر مصر، وفي صيف 1785 قام الناس بثورة كبيرة في الاسكندرية بعد أن عثروا على جثة شاب قتله سردار القلعة، فتجمعوا واتجهوا غاضبين نحو بيت السردار، فاقتحموه، وقبضوا على السردار، فأهانوه ومزقوا ملابسه، وحلقوا نصف لحيته، ووضعوه بالمقلوب على ظهر حمار، وطافوا به شوارع الاسكندرية والناس تبصق عليه وتضربه بالنعال. وفي ربيع العام التالي 1786 اندلعت ثورة الحسينية الأولى في القاهرة احتجاجا على مظالم الأمير المملوكي حسين بك اليهودي، الذي ذاعت شهرته في العنف والسلب والنهب والمصادرات، وذات يوم اقتحم مع جنوده حارة الحسينية خارج باب الفتوح، ونهب المتاجر والمخازن، واقتحم عددا من بيوت واستولى على ما فيها، وغضب سكان الحارة التي اشتهرت بالفتوات، فهم أهل ثورة، وتمرسوا على الاحتجاجات التي حدثت من قبل، وشاركوا فيها، وعرفوا مواطن القوة والضعف بين الشيوخ، فقصدوا صاحب الموقف القوى بينهم، وهو الشيخ الصوفي أحمد الدردير، فخرجوا في جموع غاضبة حاملين النبابيت والأسلحة البيضاء، ويدقون الطبول والأواني المعدينة بشدة، وتوجهوا إلى الجامع الأزهر، والتمسوا الرأي والتصرف عند شيخ المالكية الثائر أبي البركات أحمد الدردير، الذي استمع لما حدث، وقال لهم: لن نسكت على ظلم، ولن ننخدع بتعهداتهم بعد ذلك، سأخرج معكم غدا بعد صلاة الظهر بإذن الله، فنجمع أهالي الأطراف والحارات وسكان بولاق ومصر العتيقة، ونستجمع قوتنا فننهب بيوت الأمراء كما نهبوا بيوتنا، فإما ينصرنا الله تعالى، أو نموت شهداء دفاعاً عن حقوقنا. وصعد الثوار إلى المآذن ينادون بالجهاد، وبدأت الاستعدادات لمعركة تنذر بعواقب كبيرة، ووصل الخبر إلى ابراهيم بك، وداخل الرعب قلوب المماليك بعدما ترامت إليهم الأنباء عن حشد عظيم يملأ صحن الأزهر، بحيث لم يعد في البيوت إلا النساء والطفال وغير القادر من الكهول والمرضى على الخروج، وأرسل شيخ البلد ابراهيم بك رسولين (سليمان أغا ومحمد كتخدا) للشيخ الدردير برسالة تهدئة يتعهد فيها ابراهيم بك، برد كل المنهوبات وأكثر منها، وما عليكم إلا كتابة قائمة بكل ما سلبه جنود الأمير حسين الملقب باليهودي، وتم توثيق الاتفاق وقراءة الفاتحة، وتحديد موعد لاجتماع عاجل في بيت شيخ البلد، وفي الاجتماع توجه ابراهيم بك بسؤال للأمير حسين بك شفت (شفت تعني يهودي كما يقول العامة): أين المنهوبات؟، وكيف تدخل بيوت الناس للنهب؟ قال شفت بصلف: هذا عملنا، وكلنا ننهب، أنت ومراد بك تنهبون، فلماذا لا أنهب أنا أيضا؟! وفشل الاجتماع في استعادة المنهوبات، لكن …… الثورة مستمرة [email protected]