حول السائق مؤشر الراديو إلى إذاعة القرآن الكريم، فانساب صوت الشيخ الحصري مرتلا الربع الأول من سورة آل عمران: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم مرض فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب". تحمل الآية خلافا قديما شهيرا بين المفسرين، حول عبارة "والراسخون في العلم".. هل الواو فيها للعطف، فيكون المعنى أن تأويل الكتاب لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، أم أن الواو استئنافية، و"الراسخون" مبتدأ خبره الجملة الفعلية "يقولون"، فيكون المعنى أن التأويل لا يعلمه إلا الله، ولا يشاركه في هذا العلم راسخون أو غير راسخين؟. والآية السابقة، نموذج واضح، ومثال متكرر لآيات القرآن التي يستحيل القطع فيها بمعنى، ولا الجزم فيها بفهم، رغم طول المدارسة، ورسوخ قدم المفسرين، وعلو كعبهم في علوم اللغة والبيان العربي. تلوح هذه الآية أمام خاطري، كلما سمعت صوتا من الأصوات المنادية بضرورة الفهم الفردي للقرآن، وترك كل مسلم لينظر بنفسه في الكتاب الكريم، بعيدا عن قيود التفاسير والمرويات، ليخرج بفهم "إنساني"، لا يتعارض مع قيم الحضارة الحديثة، ولا يعرف تمييزا بين رجل وامرأة أو مسلم وغير مسلم.. حتى لو كان هذا الفهم خلافا للسائد والمستقر وما تؤيده اللغة وكتب السنة. والحقيقة أن الفهم الفردي يمثل أزمة لا حلا، فهو يفتح الباب واسعا لتوظيف الآيات القرآنية في خدمة الأهواء والأمزجة الشخصية، وإذا كان من بين المسلمين من سيفهم الآيات بطريقة محمد عبده، فإن من بينهم من سيفهمها بطريقة أسامة بن لادن، ومن سيرى أن القرآن يكلفه بهداية البشر، وبفرض هذه الهداية –كما فهمها- على الناس جميعا. خلال العقدين الماضيين، عرفت الحياة السياسية في مصر تجربة حزب الوسط، الذي كونته مجموعة صغيرة منشقة عن تنظيم الإخوان، ولم يكن لهم هم طوال سنوات تجربتهم إلا إظهار الفرق بينهم وبين الجماعة الأم، متمثلا في أنهم يقدمون "فهما بشريا" للإسلام، ولا يقولون إن رؤتهم تمثل الإسلام نفسه.. وقد ظنوا أنهم بذلك قد قدموا حلا ناجزا لإشكالية ممارسة السياسة استنادا إلى مرجعية دينية. لكنهم في تجربتهم غفلوا أو تجاهلوا السؤال الأهم: هل هذا الفهم البشري ملزم لأصحابه أم لا؟ وإن كان ملزما فكيف نلوم على من فهم القرآن فهما مغايرا أن يلتزم بفهمه.. فإن رأى أن القرآن يأمره بقتال قاتل، أو بقتل قتل، أو برفض مظاهر الحداثة رفض وواجه؟. ولعل الجانب الأهم في مسألة الفهم الفردي لأي نص ديني، أنها تسقطه باعتباره مرجعية عليا للأمة، لأن المرجعية، وكما يتبدى من لفظها، يرجع الناس إليها عند الاختلاف، والاحتكام إليها عند التنازع، فكيف يرجع المتنازعون إلى نص اختلفوا على فهمه، وتنازعتهم معانيه، واختلفوا حول مراد الله منه؟. على أن الطامة الكبرى تمثلت في ظهور أفراد أو مجموعات تزعم "أنسنة القرآن" بتقديم معاني جديدة للآيات، وفهما مغايرا للنصوص، مهما بعد هذا الفهم عن قواعد اللغة، أو تعارض مع طرائق البيان العربي. من ذلك، أن أحدهم استوحش عقوبة قطع يد السارق، الواردة في قوله تعالى في سورة المائدة "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله…" فقال إن القطع يعني المنع، أي منع تكرار الجريمة، وليس قطع كف اليد.. ومن ذلك أن أحدهم قد انزعج من قوله تعالى في سورة محمد: "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب".. فقال نضربهم بأيدينا على رقابهم (ضرب على القفا)، ومن ذلك أن بعضهم لم يرق له آية تجيز للرجل ضرب زوجه "واللاتي تخافون نشزوهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن".. فقال إن الضرب هنا يعني هجر منزل الزوجية. وهكذا تتعدد صور الابتذال والركاكة والضعف اللغوي، بسبب الإصرار على الالتفاف حول الحقيقة، والإقرار بأن أكثر آيات الكتاب الكريم جاءت في سياق مختلف، لا زمانيا ومكانيا فقط، بل في أحوال ووقائع لم يعد لمعظمها أشباه ونظائر في واقعنا اليوم.. مع ضرورة الإشارة إلى أننا لا نستطيع الجزم بظروف ورود الآيات أو السور أصلا، ومعظم ما جاء في هذا الباب مختلف فيه وفي رواته. إن النظر إلى باب "فقه البيوع" في أي كتاب فقه على أي مذهب، يكفي جدا لإظهار تلك الفجوة بين واقعنا اليوم، وبين الواقع الذي تتناوله الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وكذلك الشأن فيما يخص "الربا"، و"الظهار" و"الرقيق" و"العقوبات البدنية"، و"زواج الرسول".. اقرأ معي من سورة البقرة: "يأ أيها الذيم آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى والأنثى"، أو اقرأ من سورة المائدة "يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين". إن عبارة "الفهم الفردي للقرآن" لا معنى لها، وهي لا تختلف عن أخوات لها امتلأت بهم حياتنا، مثل تنقية كتب التراث، وتجديد الخطاب الديني، وكل هذه اللافتات التي لا تشتبك مع حقيقة تاريخية النص القرآني والنبوي التي أصبحت بحكم توالي القرون أسطع من الشمس في كبد السماء.