لم يكن اسم فجر السعيد حتي قبل ثلاثة أعوام يعني أي شىء لغالبية المصريين, وربما لم يكن يعني شيئا لغيرهم, فهي لم تكن أكثر من كاتبة متواضعة الموهبة تمتلك شركة أنشأتها خصيصا لإنتاج أعمالها «إن صح أنها أعمالها وليست بأقلام مأجورة كما يُشاع، ولم تكن أكثر من مجرد زوجة ثانية في حياة شاعر كويتي لم يكن أكثر منها موهبة». غير أن هذا الاسم تحوّل بين ليلة وضحاها إلى اسم ذائع الصيت بل ومصدر مهم لتفاصيل دقيقة وقرارات خطيرة للسلطة في مصر أعقاب 30 يونيو 2013، لم يكن هذا بسبب أهمية فجر السعيد ولا بسبب ثقلها السياسي أو لتاريخها الطويل أو المميز في عالم الصحافة, إنما لأنها كانت علي صلة بأحد كبار قادة القوات المسلحة المصرية, وكانت تتحصل منه علي معلومات لم تكن متاحة حتي لرؤساء وزراء أو وزراء الحكومات المصرية في حقبة ما بعد يونيو.. يحدث هذا عندما تمتلك معلومات في دول تحكمها أنظمة سرية تعتبر أبسط المعلومات أو الوثائق، حتى تلك التي تنتمي للماضي السحيق «كوثائق حرب 1948» أسرارا عسكرية قد يترتب علي تداولها الإضرار الجسيم بالأمن القومي. في محيط كهذا تصير قيمة الشخص من قيمة ما يعرف من تفاصيل ليست متاحة لغيره, تلك هي المعلومات والتفاصيل التي جعلت من فجر السعيد الكاتبة معدومة الموهبة مصدرا مهما لاستقراء ما يحدث في المنطقة برمتها في أوقات عصيبة وشديدة الحساسية, بل ومثّلت فجر السعيد شبه متحدث رسمي باسم الدولة المصرية, وباسم قواتها المسلحة في أعتى أوقات الأزمة, فعرفنا – نحن المصريين- من خلال حسابها علي تويتر أنباء غارات قواتنا المسلحة علي ليبيا وحدود مشاركة قواتنا في حرب اليمن وعن مساعي المصالحة مع تركيا!. وكما حازت فجر السعيد حيثيتها من كونها مصدرا للمعلومات عن النظام المصري, الذي لا يعرف أغلبية المصريين عنه الشىء الكثير، سواء في طرق إدارته للأزمة أو خططه للمستقبل, حاز أيضا «مجتهد» لقبه وحيثيته باعتباره مقربا من العائلة المالكة السعودية, وصار لفترة ربما النافذة الوحيدة للعالم كي يعلم ولو نذرا قليلا عن طبيعة الخلاف في البلاط السعودي.. والأمر يبدو هنا أكثر هزلية ووضوحا في آن, فقط عليك أن تدرك أن شخصا ما يُدعي «مجتهد» لا نعلم ماذا يعمل ولا نعرف شئيا عن ماضيه أو حاضره, لكنه مهم لأنه يعرف أشياء قد تبدو تافهة, لكن مجرد امتلاكه لمعلومات كهذه قد جعل منه مهما, بل ومصدرا صحفيا !. والأمر لا يقتصر علي محبي الشهرة وراغبي تصدر المشهد ولو لحظيا, بل يطول كافة المجالات, فمن يمتلك تسجيلات أو وثائق يصبح مهما وربما يجني ثروة من وراء ذلك, وتسريبات النظام المصري المتتابعة سواء كانت محادثات تخص معارضين أو تخص قادة النظام أنفسهم لا تخرج عن هذا, والأمر ذاته في الاقتصاد, فرجل أعمال فاحش الثراء كنجيب ساويرس لم يبن إمبراطوريته الاقتصادية الضخمة في بلد مأزوم وفقير لمجرد أن لديه شيئا من ميراث آبائه أو لأنه عبقري فوق العادة, بل علي العكس فكثير مما صدر منه من تصريحات وما اتخذه من مواقف في أعقاب الثورة لا يمكن وصفها بالذكاء أو الحنكة أو بعد النظر, لكن الأمور لا تقاس هكذا في منطقتنا الكتومة, فما يميّز ساويرس عن غيره أنه يمتلك ما لايمتلك غيره من معلومات, فالرجل الذي استحوذ لتوه علي سي آي كابيتال صار يستحوذ علي ما يقارب ربع شركات السمسرة في مصر, الأمر الذي يُمكّنه من الإطلاع علي كل تفاصيل الاقتصاد المصري بما يشمل خطط الحكومة وقراراتها ومفاوضاتها وسياساتها المالية. وكما أن قيمة كل هؤلاء وصيتهم وثروتهم هي من قيمة ما يمتلكونه ولا يمتلكه غيرهم من وثائق ومعلومات ومحادثات, وإن بدت تافهة في بعض الأحيان, هكذا كات قيمة هيكل!. ربما امتلك هيكل مواهب كثيرة, لكنها ليست بتلك المواهب الفذة أو الخارقة، اللهم إلا في عمره المديد, لكن أهمية هيكل للعالم وللمنطقة كانت نابعة من قربه من القيادات السياسية المتعاقبة في مصر, ومن كونه كان رجلا من رجال النظام, فقيمته الفعلية كانت فيما امتلكه من وثائق وما كان شاهدا عيانا عليه من أحداث, وهي وثائق وأحداث كثيرة استحوذ عليها هيكل, وصار يفرج عن بعضها بين الحين والآخر, ولهذا كانت كتاباته عن حرب السويس وعن كواليس النكسة وعن صراعات السادات محل اهتمام محلي وغربي, وقد أضاف له عمره المديد ميزة أخري, أنه قد صار لقرابة ربع قرن آخر سدنة دولة يوليو الأحياء والأكثر دراية بها وبأروقتها, ولهذا وصفه أنتوني ناتنج «وزير الدولة لشؤون الخارجية البريطانية» قائلا: «عندما كان قرب القمة كان الكل يهتم بما يعرفه.. وعندما ابتعد عن القمة صار مهما كيف يفكر». لكن عندما تتأمل الأمر أكثر تجد أن كل هؤلاء، بدءا من هيكل وانتهاء بمجتهد ليسوا أكثر من صنيعة الأنظمة السرية, تلك الأنظمة التي يعتبر بعضها مجرد إفشاء تعداد السكان بها جريمة تستوجب العقاب.. فقط تخيّل لو أن هناك تشريعات تتيح المعلومات للمواطنين ولا تعتبر الحديث عن شأن عام كالذي يحدث في سيناء إفشاء لأسرار عسكرية, وتخيل لو أن لدينا أنظمة تعتبر أن الأمة مصدر السلطات وأن تلك السلطات مسؤولة أمام المواطنين عن برامج وخطط تم انتخابها علي أساسها, هل كنا سنتابع فجر السعيد كي نعلم عن حجم مشاركة قواتنا المسلحة في صراعات المنطقة, وهل كان سيُحاكم إسماعيل الإسكندراني لإفشائه أسرارا عسكرية لمجرد أنه كتب عما يحدث في سيناء, وهل كان ليُلقّب هيكل أستاذا.