في واحدة من أهم القضايا التي تُثارُ بين الفينة والأخرى وتتناول "صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان" تعلو الأصواتُ رافضة ومدافعة، رغم ذلك لا يصل طرفي النزاع إلى حلّ يعالج المسألة، وينهي النزاع. وحول هذا الموضوع كتب الصديق العزيز هيثم أبو زيد مقالًا، بالبديل، عن "وهم صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان" في محاولة لطرح رؤية يراها الأصوب في الطرح، والأصحّ في المنهج. قال الصديق وهو يناقش تلك المسألة إن الآية الموجودة بسورة التوبة وتتحدث عن الجزية ما هي إلا هدمٌ لقاعدة المساواة بين أبناء الوطن، وتحول ملايين من غير المسلمين إلى مجرد ذميين، عليهم –إن إرادوا الاحتفاظ بدينهم والعيش بسلام- أن يدفعوا ضريبة للمسلمين، وأن يكون حالهم وهم يؤدون هذه الضريبة هو حال الهوان والذلة والصغار؟ وفي هذا أقول: لو أنه أمهل نفسه بعضا من الوقت ليتحرى الدقة في مصطلح الجزية في أصل وضع اللغة وتراكيبها لوجده يتألف من أصل الفعل (جزى، يجزي، مجازاة) فكأنّ الجزية مجازاة أي مكافأة يعطيها غير المسلم لمن أسدى إليه معروفًا، فكأنهم أعطوها للمسلمين جزاء ما مُنحوا من الأمن، وليست عقوبة كما يتوهم البعض. وفي هذا المعنى نجد الإمام علي بن أبي طالب (ويُؤخذ برأيه في التشريع بمذاهب المسلمين، سُنّة أو شيعةً) يقول "إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا". فإن كان صديقنا يتحدث عن المواطنة فلا أدل من هذا على المواطنة، وهو ما كان بالفعل، فالمسلمون كانوا يبذلون دفاعا عن الوطن النفس والدم، والآخرون (غير المسلمين) المال، فلا إشكال في هذا، فهي من قبيل الضريبة المالية، فلما شارك غير المسلمين في الجيش أصبح هذا مُرتفعًا عنهم. ولما لم يقدر – أمير الشام أبو عبيدة بن الجراح وهو من الصحابة – على حماية غير المسلمين وقد بذلوا له جزية ردّها عليهم. إذًا فالجزية مشروعة لعلة فلما زالت العلة زال حكمها، وعند العقلاء جميعا، وليس عند علماء الشريعة وحدهم أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا. قال الصديق أيضا: الرجل نسخ الآية بكلام (وليس بآية مثلها) أو حديث آحاد أقل رتبة منها. وفي رأيي أن هناك لبس لديه فيما أطلق عليه "النسخ" فقال إن المفكر المُدّعى قرر أن ينسخ الآية بقاعدة، وليس بآية أو حديث أحاد. ونسي أن يُعرّف لنا ما هو مفهوم النسخ، ولو رجع إلى كتاب من كتب الأصول التي تعجّ بالحديث عن موضوع النسخ، وهل هو ثابت أم لا وبحث في تعريفه، لوجد أن النسخ معناه "الإزالة أو الرفع" والمفكّر –وإن كنّا لا نوافقه- فيما قال لم يدّع النسخ، بل تأول معنى الآية على معنى قد يكون في نظره تحتمله الآية. ومن المآخذ التي تجعل الدعوى واهية قوله (الحقيقة أن الرجل لم يزد على أن وضع النص في سياقاته الزمنية) يتحدث عن الفكر معترضًا. والحقيقة أن هناك لبسًا في الحديث، فقد سوّى بين النص ودلالته، وهو أن هناك فرقًا بين النصّ وبين دلالة النص، فالنص باعتبار ثبوته يختلف عن اعتبار دلالته، فالدلالة مُتغيرة تُقبل وتُردّ ما دامت أدوات وقوانين التعامل مع النّصُوص تقبلها أو تردّها، هذا ما يُمكن الاحتكام إليه، وهذه قاعدة عامة فيما سيضرب له فيما بعد من أمثلة. وهذا مدخلٌ خطير إذ به استساغ الصديق أن يردّ جملة من الأحكام التي-من وجهة نظره- أصبحت غير مقبولة في عصرنا الحاضر، فتعامل هنا بمنهج غير علمي، إذ لم يلتزم به فيما طرح من أمثلة. ومن هذه الأمثلة: تولي المرأة رئاسة الدولة، ومسألة القوامة، ومسألة الميراث. من المعلوم عند المناطقة في تعريف وجه الدلالة من النص أنها تهدف لمعرفة "كيف أنتج الدليل الدعوى؟" والدعوى التي يستدل بها الكاتب بعيدة المأخذ عن الدليل، لعدة أمور: أولها: أن الأمثلة مُجتزءة من سياقاتها، كمسألة القوامة. ثانيها: أنّه لم يُفرّق بين حكمٍ مأخوذ من النص القطعي وهو القرآن، وبين آخر مأخوذ من النص الظني وهو خبر الآحاد كما في حديث التولية. نتحدث أولًا عن مسألة المساواة بين الجنسين، والفرق بينها وبين التساوي، وهل حقًّا يوجد مساواة بين الجنسين أم لا؟. الخطاب القرآني وهو النص الأول في التشريع الديني يقرر أن المساواة مقبولة بخلاف التساوي، إذ أن التساوي معناه إلغاء الاختلاف الطبيعي بين الرجل والمرأة، فالرجل رجل والمرأة مرأة، وليس معنى هذا أن الرجل أفضل ولا المرأة أفضل، فكل التشريعات المتعلقة بالرجال والمتعلقة بالنساء ليس لها علاقة بتفضيل جنس على جنس، ولكن لها صلة بأداء هذا الجنس في ما أوكل إليه. ففي الممارسة السياسية للنساء في الإسلام، المرأة لها كافة مباشرة الحقوق السياسية بأصل التشريع فيما نص عليه القرآن، ولها بيعتها للحاكم، أما أصل الخطاب الموجّه للمشاركة العامة القائم على الشورى فقال "وأمرهم شورى بينهم" فهو عام، لا يفرق بين الرجال والنساء. ننتقل إلى نقطة أخرى ذكرها أبو زيد في مقاله وهي كلامه حول حديث البخاري (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). الأصل في أخذ حكم تشريعي من دليل أن يُعرف سبب وروده، وما ورد في سياق حديث تولية المرأة يدل على أنه مخصوص بحالة، وليس في هذا إشكال من ناحية التأسيس لبناء منظومة تشريعية، فكثير من الدساتير تحوي أحكام تكون مؤقتة لحالات بعينها، كما الحالة التي نحن بصددها. وعلق الصديق العزيز في هذه المسألة أيضا، فقال: إن إعطاء المرأة النصف من الرجل يتنافى مع ما يدعو إليه العصر الحديث من التساوي بين الجنسين. بعد أن بينّا كون التساوي لا يتّفق والطبيعة التكوينية للجنسين، نأتي لمسألة المواريث وأتصور أنه من الخطأ أن يُحكم أنّ الأنثى دائمًا يكون نصيبها على النصف من الذكر، فالحالات التي ترث فيها الأنثى نصف الرجل 4 حالات فقط، بينما ترث مثل الذكر في 11 حالة، وترث أكثر من الرجل 14 حالة، وترث في حالات لا يرث فيها نظائرها من الرجال. واستطرد الصديق متحدثًا عن جملة من الأحكام بناءً على الأصل الذي قرره كون النصوص زمنية مؤقتة لا حاجة لنا بها في العصر الحديث، كمسألتي إثبات النسب ب"تحليل دي إن إي"، و"مسألة تربص النساء في العدة". وفي هذا أقول: من المعلوم والمقرر أن من الأحكام ما شُرع معقول المعنى (مُعلَّلًا) ومن الأحكام ما شُرع تعبّدًا، وشرح هذا مُستفيض في كتب الأصول، خلاصته تكمن في أن ما هو معلل نستطيع أن نقيس عليه وما هو تعبدي يبقى هكذا، ما دام الشخص اعترف بكون تلك الأحكام سواء كانت "معللة أو تعبدية" من عند الله. فمثلا: إثبات النسب يُنظر إليه من جهتين: الأولى بيولوجية، والثانية شرعية، والشرع يعتمد على كلّ وسيلة يمكن بها إثبات (دون النفي) بما فيها ال "دي إن دي"، وسبب ذلك أنه يترتب على الإثبات أحكام شرعية كالإرث وغيره، فكان أولى بالإثبات أن يكون شرعيًّا، بخلاف النفي ثبت بالشرع أو غيره فهو فيه سواء. وأما عدّة المرأة فسواء كانت مطلّقة أو متوفى عنها زوجها، فليست العلّة في تربصها مُدة هو استبراء الرحم فقط، فلو كان الأمر هكذا لقلنا أن التكنولوجيا الحديثة تفصل في ذلك، ولكن التربص مأمور به للتعبد والاستبراء معًا، فلو ارتفع الاستبراء بقي لنا التعبّد، بدليل أن الشرع لم يفرّق فيه بين الشابّة والعقور. وفي الختام أود أن أنبه إلى: متى يكون التبرير –التأويل- مُستقبحًا؟ إذا كان لا تقبله اللغة أولا، ثم العقل ثانيًا، ثم المصلحة ثالثًا، فمتى لم يُحقق التأويل تلك القابليات رددنا التأويل واحتكمنا للنص.