رغم أنه كان جزءا من نظام مبارك ومسئولا عن أهم أجهزة الدولة الأمنية ثم وزيرا للدفاع ، إلا أن اسمه بدأ يتردد بقوة في الشهور الأخيرة لحكم الإخوان.. كان السيسي هو الرجل الذي ينتظره الشعب المصري؛ لكي يخلصه من تركة مبارك الثقيلة بما فيها الإخوان أنفسهم.. كان هو الرجل الذي عبر في أكثر من موقف أن هذا البلد لا يستحق ما يحدث له، وأن هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه، وأنه باسم القوات المسلحة لا يريد سوي الخير للمصريين.. فرفع شعار تحيا مصر ..وقدم نفسه، ودعمته المؤسسة العسكرية وبعض شرائح المثقفين بصفته "المنقذ ".. ورجل اللحظة وبالتالي استدعي للحكم .. أتي السيسي وهو يحمل من الأماني الكثير، شاركه في هذه الأماني الجزء الأكبر من الشعب المصري الذي ظل يأمل في خلاص من الفقر والمرض والفساد والبطالة.. لم يكشف السيسي عن خطته للحكم، ولم يطالبه المصريون بها، وبالتالي جاء بلا أي إلتزام سياسي أو اقتصادي تتحدد من خلاله انحيازاته، بل جاء بالتزام أخلاقي تجاه المصريين، إلتزام بتحسن حالتهم الاقتصادية وضبط الاسعار ومكافحة الغلاء وعودة الأمن وانضباط الشارع وعودة الحقوق ومحاربة الفساد وتحجيم التضخم. جاء السيسي للحكم في مرحلة انحدار ثوري وتراجع نضالي نسبي وتنامي شعور عام بإعادة النظر في نتائج ثورة يناير، دعمها نجاح الفصل بين 30 يونيو و 25 يناير.. وبدا الأمر وكأن السيسي صار جزءا من مشروع إعادة الدولة لسابق عهدها ما قبل الثورة. وبعيدا عن حسابات فلسفة السياسة وعلاقة السيسي بنظام التبعية المصري السائد منذ كامب ديفيد .. سننشغل هنا فقط بالحالة ذاتها، الفرد بما يمثله من قيمة ما في تاريخنا المعاصر .. كيف صعد نجمه؟ وكيف جاء للحكم.. وإلى أين انتهي بنا الوضع الآن؟ كما أسلفنا جاء في ظل فراغ سياسي بعدما انغمست كل القوي السياسية المتهافتة أصلا في لعبة الكراسي الموسيقية ما بعد التنحي مباشرة، إذ من الصعب القول بأننا كنا أمام تيارات سياسية مدركة لحجمها وطبيعة دورها وقدراتها الذاتية، حتي الإسلام السياسي رغم حجمه ووزنه النسبي ظل غير مدرك لحدود دوره في الوضع السياسي المتلهب أساسا.. وأعتقد – واهما – أن الثورة بمفردها كافية علي خلق قوانين جديدة للعبة السياسة ..ذلك أن الثورات لا تكشف عن قوانين جديدة فقط، لكنها أيضا تكشف عن قدرات القوي السياسة واستعدادها لقبول تحديات الواقع. المهم أن حالة السيسي ما كان لا يمكن لها أن تظهر علي السطح دون تلك الوصفة "المنقذ" ففي لحظات معينة من تاريخ الشعوب تظهر في الأفق تلك الدعوات، ولكنها قد تنمو أو تختفي بحسب استعداد الشعب نفسه لقبول تلك الأفكار، وفي ثقافة سيدنا الخضر وأولياء الله الصالحين ونظرية الفيض والحلول يجوز قبول فكرة المنقذ جدا، بل وتجد تجاوبا شعبيا يضرب بكل قواعد علم حركة الجماهير عرض الحائط، فالمنطق في سياق حالتنا الاجتماعية التي أتى فيها السيسي كان يفترض ذلك.. إذن .. حالة السيسي هي نتاج حالة ثقافية لمجتمع كلما مر بأزمة تهدد وجوده استدعي التراث الحي بداخله وبحث عن المهدي المنتظر. أما كيف أتي للحكم؟ .. فقد اجتمع المجلس العسكري لعدة ساعات وقرر خوض التجربة والتقدم مباشرة بأحد أبنائه ليتولي منصب الرئيس.. بعد دراسة كافية للموقف وخاصة البعد الشعبي.. لماذا لم يقدم الجيش شخصية مدنية ويحافظ على التحكم وليس الحكم؟ هنا تدخل حسابات المصالح أو الخواء السياسي أو عدم الثقة أو عدم الرغبة… احتمالات كثيرة، وكلها ليست مهمة علي الإطلاق سوي للتفسير فقط ..ما يهمني هنا هو السؤال الثالث: إلى أين انتهي بنا الوضع؟ بمعني هل حالة المنقذ أو المهدي المنتظر أفادت الحكم في مصر، أو قدمت حلا لمشاكل الفقر والبطالة والمرض والفساد؟ الحقيقة أن الأمر انتهي بنا بعد ما يقرب من عامين من حكم السيسي إلى مزيد من الأزمات الاجتماعية والتشوه السياسي والانحياز للأغنياء، ومزيد من الضغط الاقتصادي على الفقراء ودعم أصحاب المصالح وفساد الحياة السياسية بالمعني والمضمون والشكل والمظهر … وملاحقة النشطاء وتفشي الاحباط واليأس وزيادة الشكوي من فواتير الكهرباء والماء ورسوم المدراس والدروس الخاصة والعلاج وارتفاع حالات الانتحار والفصل التعسفي والاعتقال …. الخ. الآن يتحول المنقذ إلى كابوس حقيقي يدفع إلى مزيد من الفقر والتهميش وسيطرة رجال القوات المسلحة على المناصب الإدارية المدنية، وتدخل الجيش في كل الحياة العامة حتى وصل الأمر الي البرلمان نفسه.. وحتي الآن لا يمكن لعاقل أن يرى نجاحات للسيسي سوي على مستوي ضبط إيقاع السلطة وترتيب أوراق النظام – فيما يسميه أنصاره – دعم الدولة المصرية.. فإذا كان دعم الدولة المصرية هو مزيد من فقر الفقراء فعلينا أن نعيد تعريفنا للدولة، حتي بالمعني الليبرالي. ويبقي السؤال: ماذا سنخسر من تبدد وهم إنقاذ البلاد؟ وماذا سنكسب؟ في اعتقادي أن الخسارة في هذه القضية ستكون فادحة، فكل الأرقام والإحصاءات تشير إلى أننا ندخل في نفق مظلم لن تجد السلطة له من حل سوى على جثث الفقراء، وحديث السيسي عن التخلص من 6 مليون موظف خير مثال علي ذلك، فدائما الرأسماليات الرثة لا تجد أمامها من حلول سوي علي أجساد الفقراء. أما ما سنكسبه من هذه التجربة فأتمني أن يكون مكسبا حقيقيا.. وأعني التأكيد علي فصل الدين عن السياسة والجيش أيضا عن الحياة المدنية. هذا الفصل ضروري حتي يمكن الفصل أيضا بين زمن المعجزات وواقع المجتمعات. وإجمالا أقول .. أن حالة السيسي المنقذ قد تبخرت، وبقي لنا السيسي الرئيس.. فهل يرحل الرئيس مع رحيل حالته أو مبرر وجوده أم يبقي؟ كل الدلائل تشير إلى أنه سيتم استبدال حالة الحاكم المنقذ بحالة الحاكم نصف الإله.. وهذه هي عادتنا الفرعونية القديمة.. ندعو الله أن ننساها.