كانت المعادلة بسيطة.. فمبارك كان ممثل الجيش في مؤسسة الرئاسة, يحظي بدعمه كما يحظي بولائه, يعتمد في شرعيته علي شرعية حكم الجيش التي استعادها بنصر أعقب النكسة, وعلي بيروقراطية تقدس الأقدمية وتولي المناصب تبعا لسنوات الخدمة ومضمونية الولاء, وعلي مناديب الشعب لدي السلطة, أو بالأحري مناديب السلطة لدي الشعب, التي كانت مهمتهم تأمين الخدمات الملحة لدوائرهم خلال زيارات الحكومة المتباعدة للبرلمان، غير أن تلك المعادلة كانت قد اختلت مع مطلع الألفية, فلم تعد الأقدمية السبيل للترقي حينما صارت حاجة النظام أشد لبيع الأصول, وحينما صار النظام أحوج إلي سماسرة لا إلي مجرد موظفين منضبطين يحفظون الوائح، كما لم تعد هناك حاجة لمناديب خدمات الشعب, فقد صار هناك من يرغب أن يشغل تلك المقاعد ولديه القدرة علي دفع ثمنها, والأهم من ذلك أن حالة من التململ بدأت في الظهور لدي النخبة العسكرية القلقة من نفوذ مبارك الابن. غير أن هناك ملمحين مهمين لفترة الاختلال تلك, الأول كان اعتماد مبارك المتكرر علي الجيش كملاذ أخير لإطفاء الحرائق المتلاحقة الناجمة عن عجز الدولة عن الوفاء بالحدود الدنيا من التزاماتها, فرأينا الجيش يتدخل مرارا لحلحلة أزمات الخبز والبوتاجاز وحتي التدخل لإنقاذ العاصمة أو الطرق السريعة من مياه الأمطار أو السيول. ترك هذا اعتقادا لدي الكثيرين في قدرة الجيش علي حلحلة الأزمات, كما فتح أبواب خيالهم لشتي التصورات عن قدرة المؤسسة العسكرية علي التخطيط والإدارة والحل والعقد في السلم والحرب، كانت المقارنات تصب في صالح مؤسسة الجيش عندما يتم عقدها مع بقية مؤسسات الدولة المهترئة العاجزة الفاسدة. الملمح الآخر، كان إدراك الجميع لحقيقة شعبية تنظيم الإخوان المسلمين علي وجه اليقين، ففي أعقاب أحداث سبتمبر 2001 مارست الإدارة الأمريكية ضغوطا علي أنظمة المنطقة من أجل قليل من انفتاح المجال السياسي واستيعاب الإسلاميين المعتدلين داخله؛ أملا في احتواء عنف التنظيمات الإسلامية, ولم يكن بوسع النظام الذي طالما ظل يؤكد أن 99% من أوراق اللعب هي في يد أمريكا، إلا أن يستجيب حتي وإن تباطأ في الاستجابة أو بدا مترددا حيال تلك الرؤية أو متخوفا منها، وبالفعل وافق النظام علي إجراء انتخابات برلمانية أكثر نزاهة من سابقاتها, وهي الانتخابات التي دخلها الإخوان ب160 مرشحا، نجح 88 منهم في أن يحجزوا مكانا لهم تحت قبة البرلمان, بخلاف أن هناك نحو 40 مرشحا للتنظيم تم إسقاطهم، وفقا لتصريحات منسوبة لرئيس الحكومة، أحمد نظيف، وقتها، أي أن من بين 160 مرشح لتنظيم الإخوان المسلمين نجح نحو 130, كانت تلك أعظم فرص التنظيم, الذي طرح نفسه داخليا وخارجيا لاعبا رئيسيا يحظي بدعم شعبي معتبر, كما تم استقباله كطرف بإمكانه احتواء الخطاب الإسلامي المتشدد والعمل كوسيط بين جموع الإسلاميين وبقية المجتمع, وفوق هذا وذاك، فقد طرح التنظيم نفسه كطرف مسؤول يمد جسور الثقة لفصائل المعارضة، بل ويسخّر قواعده لجمع توقيعات بيان الجمعية الوطنية للتغيير التي مثلها محمد البرادعي. وبين تصاعد أسهم الجيش, الحليف الرئيسي للولايات المتحدة بالمنطقة والقيّم الحقيقي علي السلام مع إسرائيل, والذي يحظي بحضور شعبي معتبر علي خلفية تدخلاته المتكررة وقت الأزمات, وبين التموقع الإخواني الملائم لرؤية الغرب عموما لحلحلة أزمة الشرق الأوسط واحتواء المد الجهادي المزعج, كانت سياسات مبارك تكتسب أعداء كل يوم وتواجه رفضا شعبيا غير مسبوق لاعتمادها علي بيع الأصول ورفع أسعار الخدمات الأساسية وفرض المزيد من الضرائب وإطلاق يد رجال الأعمال في التربح والاحتكار وعدم القدرة علي توفير خدمات أساسية كالتعليم والصحة وخلق الوظائف. كانت تلك مؤشرات أن عالما ما قيد التشكيل وأن آخر كان على وشك الأفول, لكنه ظل عالم مبارك علي أي حال, فهو السيد والمالك الذي يحرك البيادق, وكان من الممكن أن يظل عالمه لو استطاع تحريك البيادق بالشكل الصحيح أو استطاع احتواء التململ في معسكره قبل أن يصير تمردا وانقلابا، ولأنه كان لازال عالمه فكان هو محور المعارضة, ما يفسر اجتماع الأغيار علي مقاومته أو محاولة إرغامه علي تقديم بعض التنازلات أو ربما الرحيل إن تسنّي. غير أن مبارك لم يحرك البيادق بالشكل الصحيح, ولم يدرك أن عالمه الذي ألفه سكان الوديان كان قاب قوسين من أن يتهاوي, كان علي يقين أن الفراغ الذي حكمه لعقود لا يمثل فيه السياسيون سوي شرذمة لا تدعو للقلق, فما هم إلا مجموعة تهوي التسلية, وهو من جهته لم يمانع في أن «يخلّيهم يتسلّوا»، وقد يكون محقا في أن المشتغلين بالسياسة أو المهمومين بالشأن العام عموما لا يمثلون أكثر من مجموعات حلقية محدودة العدد والتأثير, وأنهم بكامل تنظيماتهم لا تتجاوز نسبتهم الواحد بالمائة من الفراغ الذي يحكمه, لكن الأمور لا تسير هكذا إن كنت تستعدي الفراغ ذاته. لم يحاول مبارك أن يحتوي حتي معسكره ولا أن يحافظ علي دعائم شرعيته, فكما استخف بخصومه في الجمعية الوطنية للتغيير, استخف أيضا بتململ نخبته العسكرية من نفوذ نجله وطغمته, واستخف بمناديبه التقليديين لدي الشعب الذين تم نفيهم من المعسكر لحساب من يدفع أكثر, واستخف بتقاليد بيروقراطيته وسدنتها الأوفياء. سقط مبارك وتهاوي عالمه, ليولد عالم الإخوان, فهو عالم الإخوان شئنا أم أبينا.. هم القوة السياسية الرئيسية الجديدة, وهم من لديهم البيادق, ولأنه عالمهم فهم محور المعارضة أيضا.. فكل التنظيمات السياسية بنيت علي كون الإخوان مُلّاك العالم الجدد, الخطاب والحشد والتعبئة في الشارع وفي انتخابات البرلمان وفي انتخابات النقابات كلها تتمحور حول معارضتهم، وكما استخف مبارك بشرذمة معارضته استخف الإخوان بخصومهم حتي نعتهم الرئيس السابق محمد مرسي في خطاب مهم في ذروة الأزمة بأنهم خمسة ستة تلاتة أربعة في حارة مزنوقة. سقط الإخوان عندما خسروا تموقعهم الذي جعل منهم القوة الرئيسية في العالم الوليد، وتماما كمبارك كان لا زال لديهم حتي قرب سقوطهم القدرة علي التصرف وعلي الاحتواء وعلي تحريك البيادق, وكما فعل مبارك لم يحتوِ الإخوان المعسكر الذي صعد بهم سلم السلطة, ولم يرتقوا لطموح كل من راهن علي تموقعهم الوسيط، وبدلا من أن يدركوا أن العالم القديم قد تهاوي واحترقت أوراقه وسقطت شرعيته, سعوا بكل جهد أن يكونوا بديلا لمبارك وسط حاشيته وبدعائم شرعيته, لقد استنسخوا ذات الخطاب عن الاستقرار وقطعوا كل الطرق علي محاولات التغيير، بدءا من معركة استفتاء مارس 2011 التي انتصروا فيها لحلفاء مبارك من النخبة العسكرية, ثم قطعوا الطريق علي أي حكومة يتولي رئاستها أحد من عالمهم الناشئ لينبشوا في التراب ويأتون بجثة من عالم متهاوي كالجنزوري. ربما يكون صحيحا أن الإنسان عدو ما يجهل, ومشكلة الإخوان في أعقاب الثورة أنهم جهلوا أن هذا عالمهم, ولأن الإنسان عندما يواجه الأسئلة الصعبة والمواقف غير المألوفة, في الأغلب, يلجأ للماضي أملا في حل سحري, هكذا فعل الإخوان، أرادوا موقع مبارك برأب صدع معسكره وتأمين ولاءه, الجيش، البيروقراطية، مناديب السلطة لدي الشعب, وهكذا يفعل وزير دفاعهم الآن. ويبدو أنه عندما يتهاوي العالم القديم بوجوهه المألوفة ومروياته المكررة وحوادثه الرتيبة، يهرع فقراء الخيال إلي الماضي لاستعارة تقاليده لأنهم لا يجيدون خلق شىء جديد, غير أن العالم عندما يتهاوي لا يعود مجددا كما كان أو حتي قريبا مما كان, فيسقط العالم القديم ثم يسقط من جديد, حتي يدرك الأغبياء أن الماضي لا يمكن أن يظل جاثما كالكابوس علي أدمغة الأحياء للأبد, وأن العالم الذي يحاربون للحيلولة دون سقوطه قد سقط بالفعل لافتقاره مقومات البقاء.