أثارت تصريحات أحد المثقفين المصريين مؤخرا حول المسجد الأقصى الكثير من الغضب والنقاشات، عندما حاول الرجل محو مركزية الصراع العربي الصهيوني والتشكيك في مكان المسجد الأقصى. واقع الأمر أن هذه المحاولات جزء من الصراع الدائر في المنطقة منذ قرن من الزمان على يد الحركة الصهيونية منذ نشأتها نهاية القرن التاسع عشر والدولة الإسرائيلية منذ إقامتها في 1948، فالصراع من جهة هؤلاء صراع شامل تستخدم فيه كل الأدوات العسكرية وغير العسكرية. هذه المحاولة البائسة تستهدف تعزيز فكرة أخرى بائسة زرعتها الحكومتان الإسرائيلية والأمريكية في التسيعينيات؛ بهدف تحويل الصراع من صراع حقوق انتهكت وأرضٍ اُغتصبت وملايين قتلت وشردت، إلى نزاع على أرض بين الإسرائيليين والفلسطينيين. كانت هذه الفكرة هي محور مفاوضات أوسلو التي انتهت بتعميق الصراع، وتضاعف أعداد المستوطنين والمستوطنات، وقتل الآلاف وحصار غزة من نحو سبعة أعوام. استخدم الصهاينة القوة العسكرية لتحقيق أهدافهم، فدولتهم قامت بحد السيف وعلى أنقاض المئات من القرى العربية التي تم تدميرها عن بكرة أبيها وقتل أهلها وتشريد من تبقى منهم. والقتل يمثل أحد أعمدة الفكر الصهيوني، وكثير من القادة السياسيين للدولة كانوا في الأساس زعماء عصابات مسلحة قبل 1948 مثل: مناحيم بيغين واسحق شامير وموشيه ديان وآريل شارون واسحق رابين وغيرهم. وسيسجل التاريخ المعاصر كيف أن فلسطين شهدت أكبر عمليات إرهاب في التاريخ على الإطلاق، حيث ارتكبت مئات المجازر في حق الشعب الفلسطيني وفي حق الكثير من الدول العربية والعلماء العرب، راح ضحيتها أكثر من مليون إنسان من الفلسطينيين وغير الفلسطينيين. وتصنف هذه المجازر في القانون الدولي كأعمال إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. وهذه أمور لا خلاف عليها، حيث اعترف بعض المؤرخين الإسرائيليين ببعض الحقائق التي ظلت آلة الدعاية الإسرائيلية تخفيها، فالمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه (Ilan Pappe) أصدر في 2006 كتابا اعتبر ما حدث في سنة 1948 (عام النكبة) "تطهير عرقي" وفق خطة معدة ومدروسة بعناية، وليست حربا دفاعية ضد هجوم العرب عليها كما يروج البعض. لكن ما كان للدولة الصهيونية أن تقوم وتستمر دون أن يصحب القوة العسكرية قوة الفكرة والايديولوجيا. لقد أحيت الصهيونية اللغة العبرية وجعلتها اللغة الرسمية للبلاد، واستخدمت الدين في خدمة السياسة والتوسع والقتل، وقامت بأكبر عملية تزوير في التاريخ عندما قامت بتهويد مدن وقرى وكافة معالم فلسطين، وسيطرت على الكثير من المقدسات الإسلامية والمسيحية. وقد استخدم الصهاينة في هذا كافة الوسائل الممكنة من إعلام وتعليم وجامعات ومراكز بحوث ودور نشر وغيرها، واستطاع الجهاز الإعلامي للدولة زرع الكثير من المغالطات والأكاذيب في عقول بعض المثقفين والكتاب العرب وغير العرب ليقوم هؤلاء بعد هذا بنقلها للشعوب، ومن هذه الأساطير: "أسطورة أن فلسطين كانت صحراء جرداء"، و"أن الفلسطينيين باعوا أراضيهم"، و"أن لا حل للمسألة إلا بالسلام".. وغير ذلك. لقد استخدم المشروع الصهيوني في واقع الأمر الكثير من الأدوات الأخرى الدبلوماسية والدعائية، ومن ضمن هذه الأدوات أداة "التسميم السياسي (intoxication)". وهذه ظاهرة مهمة في علم الاتصال السياسي كتب عنها العالم الراحل حامد ربيع وغيره من علماء السياسة العرب، وهي تشير إلى محاولة زرع أفكار معينة أو قيم دخيلة من خلال الكذب والخديعة ثم العمل على تضخيم هذه القيم تدريجيا لتصبح قيم عليا في المجتمع المستهدف، وعملية التسميم السياسي مرحلة من مراحل المعركة مع الخصم أو مقدمة لمعركة قادمة، وهي تستهدف تبديل القيم أو التحلل من قيم معينة بشكل تدريجي وغير مباشر، ولا يمارس العدو التسميم مباشرة وإنما يتم استعمال نخب فكرية وثقافية وفئات مختارة لتُنقل لها (في مرحلة أولى) الأفكار الدخيلة، ثم تُترك هذه النخب والفئات (في مرحلة ثانية) لتنقل تلك الأفكار إلى الجماهير من خلال أدوات الدعاية والإعلام المحلية المختلفة. وفي ظل هيمنة نظم الحكم المستبد في معظم العواصم العربية، وضعف مؤسسات التنشئة السياسية والتعليمية والثقافية، تعرضت الشعوب العربية إلى اختراق ثقافي خطير، ونجحت الدولة الصهيونية في زرع الكثير من الأفكار الدخيلة لدى عدد ممن يطلق عليهم مثقفين عرب ثم تَرَكَتهم لنشر هذه الأفكار حتى صارت هذه الأفكار مصدرًا للكثير من الفتن والانقسامات بين العرب. ومن هذه الأفكار الدخيلة أفكار يرددها البعض بلا أدنى قدر من الوعي، منها القول بأن الفلسطينيين باعوا أراضيهم، أو أن العرب يضيعون فرص السلام مع الإسرائيليين، أو أن السلام سيضمن التفرغ للتنمية، أو أن العرب والمسلمين أمة ميتة فاسدة، أو أن العروبة ماتت، وأن الصراع العربي الصهيوني ليس جزءا من مشكلات العرب، وإنما هو مجرد أزمة أراضي متنازع عليها بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وغير ذلك. وبرغم هذا ستظل الدولة الصهيونية دولة "أبارتهيد" عنصري على أساس الدين، بل هي أسوأ من دولة "الأبارتهيد" التي كانت قائمة في جنوب إفريقيا؛ لأن الدولة العنصرية الصهيونية دولة عسكرية واستعمارية، وتشرعن التمييز على أساس الدين، وتحصل في ذات الوقت على دعم الدول الغربية الديمقراطية مع تواطؤ الكثير من النخب الحاكمة العربية. سيظل الصراع الوجودي مع هذه الدولة شاهدا على خذلان الحكومات العربية للشعب الفلسطيني منذ حرب 1948 وما تلاها من نكسات ومجازر، لقد تاجرت بعض هذه الحكومات بالقضية لترسيخ الدولة القمعية والبوليسية على أساس أنه لا صوت يعلو على صوت المعركة، كما حولت كثير من الأنظمة جيوشها عن محاربة العدو الصهيوني وحماية الأمن القومي العربي إلى حراسة المستبدين والنخب المنتفعة المتحالفة معهم أو إلى أداة قمع لشعوبهم عندما يثوروا من أجل الكرامة والحرية والعدالة، وأهدر الحكام أيضا كل طرق التمكين والتأثير الأخرى من إعلام وجامعات ومجتمع مدني وثقافة. ستظل قضية فلسطين حية في نفوس الملايين، ولن تصمد كافة القيود التي وضعت أمام هذه الملايين طويلا، فالتحدي الصهيوني هو نبت إمبريالي زائل، وهو خطر على كل العرب من المحيط إلى الخليج، ولا يحول دون زواله إلا محاربة النخب العربية الحاكمة إرادة الشعوب العربية في التحرر والكرامة والحرية.