مع دخول النصف الثاني من القرن السابع الهجري، برز نجم الإمام ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر البيضاوي الشيرازي الشافعي، صاحب التفسير المشهور "أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، أحد أهم التفاسير التي حظيت بقبول جمهور أهل السنة، لما حواه من فنون ضمت كثيرا من فضائل تفاسير أخرى، فحظي بالاهتمام والشرح والتدريس في معاهد العلم الديني من أقصى الهند إلى المغرب الأقصى، وعلى رأسها الأزهر في مصر والزيتونة في تونس عدة قرون. جمع تفسير البيضاوي بين محاسن الزمخشري في كشافه والرازي في مفاتيحه، وتخلص إلى حد كبير مما يعاب على الكتابين الجليلين، فأظهر ما في الكشاف من فوائد بيانية بأسلوب واضح قريب، مع تخليصه من النزعات الاعتزالية، بينما أفاد تقريرات الرازي المسهبة ضبطا واختصارا ورشاقة تعبير، فقرب البعيد، وسهل الصعب، وأصبح كتابه مقصد الدارسين والباحثين يجدون فيه ما يفتقدونه في غيره. ويعتبر كثير من العلماء تفسير البيضاوي تلخيصا لما في "الكشاف" مما يتعلق بالإعراب والمعاني والبيان، ول"مفاتيح الغيب" مما يتعلق بالحكمة والكلام، ومن تفسير الراغب مما يتعلق بالاشتقاق والغوامض ولطائف الإشارات. وكان ظهور تفسير البيضاوي سببا في انتشار كشاف الزمخشري، الذي كان يتهيبه طلاب العلم لما يحوي من نزعات اعتزالية، فكان يتنازعهم تجاهه موقفا القبول والإعراض، والميل والهجران، فلما جاء البيضاوي وتلقاه طلاب التفسير بالقبول والاطمئنان، رأى كثير من أئمة هذا الفن أن الفهم الكامل للبيضاوي لا يتم إلا بتحصيل نكت الزمخشري البيانية، فأقبلوا على الكشاف درسا وتحصيلا، فأصبحت دراسة البيضاوي طريقا لدراسة الكشاف، الذي لم تتوفر له حواش إلا في القرن الثامن وما بعده. وقد يبدو للوهلة الأولى والنظر السريع أن تفسير البيضاوي أقرب إلى الاختصار والتبسيط، لكن الدراسة الجادة للكتاب تظهر مدى عمقه وبعد غوره، وفي هذه النقطة يقول مفتي تونس محمد الفاضل بن عاشور عن البيضاوي: "أصبح كتابا عميق الغور، صعب المراس، ثري المطاوي، محتاجا تقريره إلى الرجوع إلى موارده، وبخاصة أصليه العظيمين: تفسير الزمخشري وتفسير الرازي، فأصبح تدريسه ميدانا للملكات الراسخة، ومجالا لقوة العوارض، ونفوذ الأنظار، وسمو البيان… فإنه ما من مفسر للقرآن في القرن السابع وما بعده، إلا وتفسير البيضاوي في طليعة مراجعه". ومن الأمثلة التي تظهر طريقة البيضاوي في التفسير مع بيان علاقته بالكشاف نسوق كلامه عن قوله تعالى: {وسع كرسيه السموات والأرض} إذ يقول: "تصوير لعظمته وتمثيل مجرد كقوله: "وما قدروا الله حق قدره" وقوله: "والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه" ولا كرسي في الحقيقة ولا قاعد، وقيل كرسيه مجاز عن علمه أو ملكه مأخوذ من كرسي العالم والملك". ولعل الدليل الأكبر على اهتمام العلماء بتفسير البيضاوي يتمثل في الحواشي المتعددة التي وضعت عليه، ومن أهمها: حاشية المحقق عبد الحكيم السيالكوتي، وحاشية العلامة المصري الأزهري شهاب الدين الخفاجي، وحاشية أبي بكر بن الصائغ الحنبلي، وحاشية محمد بن قرة الخسرواني، وحاشية محمد بن محمد القاهري الشافعي، وحاشية الصديقي الخطيب المعروف بالكزاروني، وهي من أهم حواشي البيضاوي.وقد عد صاحب كشف الظنون من الحواشي والشروح على البيضاوي ما يقارب الخمسين. أخذ المهتمون بالعلم الشرعي على البيضاوي عدم التحري في درجة الأحاديث النبوية التي أوردها في تفسيره، وإهمال ما ورد عليها من نقد، وما اتصل بها من مباحث الجرح والتعديل، وقد وضع المحدث الشامي الشيخ عبد الرؤوف المناوي كتابا في تخريج تلك الأحاديث سماه "الفتح السماوي في تخريج أحاديث البيضاوي"، إلا أن تضمن البيضاوي بعض الأحاديث الموضوعة مثل مأخذا كبيرا على الكتاب، وربما تسبب أحيانا في الصد عن الانتفاع بقيمته الكبرى. ولأن عطاء تفسير البضاوي ما زال مستمرا، فقد أقيم في إبريل الماضي مؤتمر نظمته كلية اللغة العربية بجامعة القرويين بمراكش تحت عنوان التفكير النحوي والبلاغي في "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" للبيضاوي، وفي كاية الشريعة بجامعة دمشق مال الطالب محمد إدريس درجة الماجستير عن رسالته بعنوان "اهتمام مفسري القرن الحادي عشر بتفسير البيضاوي..أسبابه ومظاهره"، كما نشرت مؤسسة مؤمنون بلا حدود عام 2013 دراسة لمحمد إدريس بعنوان "أنوار التنزيل وأسرار التأويل بين سلطة النص المقدس وسلطة الواقع المعرفي"، وهذه أمثلة قليلة على ما يحظى به هذا التفسير من اهتمام، وما يثيره من مباحث.