"الفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن برز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرّية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوّة لحييه لا يتصدّى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلَّا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علم المعاني وعلم البيان وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة…". بهذه العبارات الفصيحة الجزلة الرائقة، استهل الإمام أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد الزمخشري (467 538ه، 1074 1143م) كتابه "الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل"، المعروف اختصارًا بتفسير الزمخشري، الذي يمثل إحدى أهم المحطات في مسيرة تفسير القرآن، لما حواه من كشف عن وجوه البلاغة القرآنية، وانتصار للغة العربية من رجل أصله أعجمي فارسي. ومنذ منتصف القرن السادس الهجري أصبح "الكشاف" مرجعًا أساسيًّا، يعتمد عليه أئمة التفسير، والمهتمين بالوجوه البيانية لآيات الكتاب الكريم، لا سيما من أعلام المدرسة الأشعرية الأعجمية، وعلى رأسهم شرف الدين الطيبي، والقطب الشيرازي، وسعد الدين التفتازاني. وبالرغم من أن الزمخشري بنى كتابه على ما يؤيد الفكر الاعتزالي، وأصوله الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالرغم من كيله النقد والسباب لأهل السنة، إلَّا أنهم عرفوا للكتاب قدره، واهتموا به اهتمامًا بالغًا، ونقدوا ما فيه من انحياز اعتزالي دون أن يحرموا الثقافة السنية مما فيه من فوائد علمية لا تطلب بهذا المستوى من كتاب آخر. وقد وضع العلامة المصري السكندري ناصر الدين ابن المنير المالكي كتابًا في نقد تفسير الزمخشري سماه "الانتصاف" بين فيه ما في الكشاف من دعاوى اعتقادية، وتعسف في تخريج الكلام بما يوافق مذهب المعتزلة، مع الإقرار بتفوق الزمخشري في ميدان البلاغة، وإظهاره روائع البيان القرآني على نحو غير مسبوق. وعن الزمخشري، يقول مفتي تونس محمد الفاضل بن عاشور: "أصبح كتابه عمدة الناس على اختلافهم، بين مشايع له ومخالف، وعلى وفرة مخالفيه، وانقطاع مشايعيه، يرجعون إليه على أنه نسيج وحده في طريقته البلاغية الإعجازية، وفي غوصه على دقائق المعاني وحسن إبرازها على طريقة علمية سائغة بتحليل التركيب، وإبراز خصائصه واعتباراته… وهكذا انقرض المذهب الاعتزالي واندرج الزمخشري وأهل فرقته في البائدين، واحتل الكتاب مكانه الذي هو أهل له مشاعًا بين أهل القرآن". لم يعرض عن "الكشاف" إلَّا طائفة الوهابية، الذين دبجوا المقالات في ذم الكتاب وصاحبه، وجمع مآخذ علماء السنة عليه، وعمدتهم في ذلك ما قاله ابن تيمية في "الفتاوى: "وأما الزمخشري فتفسيره محشو بالبدعة، وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات والرؤية والقول بخلق القرآن، وأنكر أن الله مريد للكائنات وخالق لأفعال العباد، وغير ذلك من أصول المعتزلة، وهذه الأصول حشا بها كتابه بعبارة لا يهتدي أكثر الناس إليها ولا لمقاصده فيها، مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة، ومن قلة النقل عن الصحابة والتابعين". ومن أمثلة لمحات الزمخشري في كتابه، تعليقه على قوله تعالى في سورة مريم "واشتعل الرأس شيبا" بقوله: "شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ، باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. وأخرج الشيب مميزًا ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا، فمن ثم فصحت هذه الجملة وشُهد لها بالبلاغة". ومن لمحاته الباهرة وقفته الثرية عند تفسيره قوله تعالى في سورة الزمر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} حيث قال: "والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز، وكذلك حكم ما يروى: أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السموات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن فيقول أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا مما قال ثم قرأ تصديقًا له {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ}… الآية، وإنما ضحك: أفصح العرب صلى الله عليه وسلم وتعجب لأنه لم يفهم منه إلَّا ما يفهمه علماء البيان من غير تصوّر إمساك ولا أصبع ولا هزّ ولا شيء من ذلك، لكن فهمه وقع أوّل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأفهام والأذهان ولا تكتنهها الأوهام هينة عليه هوانًا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه، إلَّا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل، ولا ترى بابًا في علم البيان أدقّ ولا أرقّ ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع وأعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء، فإنّ أكثره وعليته تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديمًا، وما أوتي الزالون إلَّا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير، حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علمًا لو قدره حق قدره، لما خفي عليهم أنّ العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه، إذ لا يحل عقدها الموربة ولا يفك قيودها المكربة إلَّا هو". ثم يختم الزمخشري كلامه النفيس الذي نحتاجه اليوم أشد الاحتاج بعباراته الخالدة: "وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول، قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة، والوجوه الرثة، لأنّ من تأول ليس من هذا العلم في عير ولا نفير، ولا يعرف قبيلًا منه من دبير".