كان علي بن أبي طالب يثني علي تفسير عبد الله بن عباس ويقول: وكأنما ينظر إلي الغيب من ستر رقيق التفسير يقع في منطقة وسط بين العلم والإلهام! التفسير يقع في منطقة وسط بين العلم والإلهام! هذان شرطان لا يمكن لمفسر أن يعيش بين معاني القرآن إلا إذا توافرا فيه، فالعلم وحده لا يكفي وإلا لصار كل علماء المسلمين مفسرين، وكذلك الإلهام الذي لا يستقيم إلا بالعلم، لنفرق بين من يعرف معاني الكلمات ومن يدرك دلالتها ويصل إلي المراد منها ويعطي لنا صورة من قريب لا نصل إليها بالاجتهادات. فرق كبير بين اجتهاد العلماء واجتهاد العامة، فالعالم يبقي دائما استثناء تكراره صعب ،أما المدّعون فلا حصر لهم لكنك لن تجد شيئاً عندهم، ولحسن حظنا أن قائمة المفسرين العظام والعلماء الكبار - علي مدار 1400 سنة - طويلة، فقد بدأت منذ أيام الصحابة، ومن أشهر مفسري الصحابة عبد الله بن عباس، عبد الله بن مسعود، علي بن أبي طالب، أُبي بن كعب، وكانت مصادرهم في التفسير؛ القرآن والسنة النبوية، بالإضافة لاجتهادهم وقوة استنباطهم بما فتح الله عليهم . وسارت من بعدهم مدارس متقدمة علي منهج ابن عباس للتفسير، من أشهر رجالها سعيد بن جبير ومجاهد بن جبر، وطاووس اليماني، وعطاء بن أبي رباح، ومدرسة التفسير في المدينة، وقامت علي أبُي بن أبي كعب وأشهر رجالها أبو العالية، محمد بن كعب القرطي، زيد بن سالم، ومدرسة التفسير في العراق وقامت علي أبي مسعود وأشهر رجالها علقمة بن قيس، الأسود بن يزيد، مرة الهمداني، عامر الشعبي والحسن البصري، ومن أشهر من دوّن في التفسير المأثور: الطبري، السمرقندي، الثعلبي، البغوي، ابن عطية، ابن كثير، الثعالبي، السيوطي وغيرهم من كبار علماء التفسير أمثال محمد عبده ومصطفي المراغي وسيد قطب والشعراوي الذين لولاهم ما كنا فهمنا شيئاً من معاني القرآن. عبد الله بن عباس هو العلامة الفارقة في التفسير، فقد كان علي درجة عظيمة من الاجتهاد والمعرفة بمعاني كتاب الله، قال فيه ابن مسعود «نعم ترجمان القرآن»، وكان علي بن أبي طالب يثني علي تفسيره ويقول: و«كأنما ينظر إلي الغيب من ستر رقيق».. هو عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، ابن عم الرسول صلي الله عليه وسلم، وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين . لازم الرسول في صغره حتي توفي الله نبيه، فلازم كبار الصحابة وأخذ عنهم ما فاته من حديثه صلي الله عليه وسلم، و كان ابن عباس يرجع في فهم معاني القرآن إلي ما سمعه من حديث النبي، وإلي ما يفتح الله به عليه عن طريق النظر والاجتهاد، مع الاستعانة في ذلك بمعرفة أسباب النزول والظروف والملابسات التي نزل فيها القرآن. وكان يرجع إلي أهل الكتاب ويأخذ عنهم، كما كان يرجع في فهم الألفاظ الغريبة التي وردت في القرآن إلي الشعر الجاهلي، وكثيراً ما كان يسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر، وقد روي عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصي كثرة، وتعددت الروايات عنه واختلفت طرقها، ومن أجود هذه الطرق طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة. الطبري جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، كان حافظاً لكتاب الله، بصيراً بالقرآن، عارفاً بالمعاني، عالماً بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها.. هذا هو أبو جعفر محمد بن جريربن يزيد بن كثيربن غالب الطبري، الإمام الجليل صاحب التصانيف المشهورة. وُلد سنة 224 ه، من أهل طبرستان، رحل من بلده في طلب العلم، وطاف بمصر والشام والعراق حتي استقر في بغداد وبقي بها إلي أن مات سنة 310 ه . برع في علوم كثيرة، منها علم القراءات والتفسير والحديث والفقه والتاريخ وصنف في علوم كثيرة وأبدع في التأليف، ومن أشهر ما صنف «جامع البيان في تفسير القرآن»، وقد اعُتبر الطبري أباً للتفسير وهو صاحب مذهب معروف من ينتحله يقال لهم «الجريرية». وكان إذا أراد أن يفسر آية قال: القول في تأويل قوله تعالي كذا وكذا، ثم استشهد علي ما قاله بما يرويه بسنده إلي الصحابة والتابعين من التفسير المأثور، ولا يقتصر علي مجرد الرواية بل يتعرض لتوجيه الأقوال ويرجح بعضها علي بعض ويتعرض لناحية الإعراب إذا دعت الحاجة، ويستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآية. ابن كثير كان علي مبلغ عظيم من العلم، وقد شهد له العلماء بغزارة علمه وسعة مادته خصوصاً في التفسير والحديث والتاريخ، وقال فيه ابن حبيب «زعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنف، وأطرب السمع بالفتوي وشنف، حدث وأفاد، وطارت أوراق فتاويه في البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير»، هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمرو بن كثير، القرشي الدمشقي الشافعي. ويُعد تفسير القرآن العظيم لابن كثير من أشهر ما دون في التفسير المأثور. اعتني فيه مؤلفه بالرواية عن مفسري السلف، وفسر فيه كلام الله بالأحاديث والآثار المسندة إلي أصحابها، ويقوم منهجه في التفسير علي ذكر الآية وتفسيرها بعبارات سهلة موجزة، وإن أمكن توضيح الآية بآية أخري ذكرها وقارن بين الآيتين، حتي يتبين المعني ويظهر المراد، وهو نوع من التفسير يسمونه تفسير القرآن بالقرآن، ثم يشرع في سرد الأحاديث التي تتعلق بالآية ويردفه بأقوال الصحابة والتابعين وما يليهم من علماء السلف، وقد توفي ابن كثير وله من العمر74 عاماً، ودُفن بمقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية . القرطبي قال عنه الذهبي: إمام متفنن متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة تدل علي كثرة اطلاعه ووفود عقله وفضله.. هو أبو عبد الله محمد الأنصاري القرطبي، صاحب كتاب التفسير الشهير الجامع لأحكام القرآن والمُبّين لما تضمن من السنة وأحكام الفرقان، وهو تفسير جامع لآيات القرآن جميعًا ولكنه يركز بصورة شاملة علي آيات الأحكام في القرآن الكريم، ويُعد من أفضل كتب التفسير التي عنيت بالأحكام. قال الإمام أبو عبد الله القرطبي في مقدمته «عنيت بأن أكتب فيه تعليقاً وجيزاً يتضمن نكتاً من التفسير، واللغات، والإعراب، والقراءات، والرد علي أهل الزيغ والضلالات، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات». ويحتكم القرطبي كثيراً إلي اللغة ويكثر من الاستشهاد بأشعار العرب، ويرد علي المعتزلة، والقدرية، والروافض، والفلاسفة، وغلاة المتصوفة، وقد روي أحيانا ما جاء من غرائب القصص الإسرائيلي، وكان ينقل عن السلف كثيراً مما آثر عنهم في التفسير والأحكام، مع نسبة كل قول إلي قائله، فنقل عن ابن جرير الطبري، وابن عطية، وابن العربي، وأبو بكر الجصاص. السيوطي توفي والده وله من العمر خمس سنوات وسبعة أشهر، وأسند وصايته إلي عدد من رفاقه، منهم الكمال بن الهمام فنشأ تحت رعايته وقرره في وظيفته الشيخونية . ختم القرآن وله من العمر ثماني سنين وحفظ كثيراً من المتون، وأخذ عن شيوخ كثيرين عدهم تلميذه الداودي فبلغ بهم واحداً وخمسين، كما عدّ مؤلفاته فبلغ بها ما يزيد علي الخمسمائة مؤلف.. هو جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكربن محمد السيوطي . ولد في رجب 849 ه ويعد أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه ولقد أخبر عن نفسه أنه يحفظ مائتي ألف حديث وقال: لو وجدت أكثر لحفظت . له العديد من المؤلفات في التفسير منها : مفاتيح الغيب، الإتقان، الدر المنثور في التفسير المأثور. يتميز تفسير السيوطي بأنه يبدأ أولاً بذكرمكان نزول السورة، وهل هي مكية أو مدنية، ثم يذكر ما ورد فيها من فضائل، ويُقسّم السورة إلي مقاطع، ثم يفسر الكلمة أو الجملة مبيناً فيه سبب النزول إن وجد، القراءات، الناسخ والمنسوخ، شرح غريب اللفظ ومبهم العبارات، و إذا كانت الآية تتضمن أحكاماً فقهية، فإنه يذكر ما ورد فيها من أحكام. الزمخشري ما دخل بلداً إلا اجتمع عليه أهلها وتتلمذوا له، وما ناظر أحد إلا وسلم له واعترف به، ذاع صيته وطار ذكره حتي أصبح إمام عصره.. هذا هو أبو القاسم، محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي، الإمام الحنفي المعتزلي، الملقب بجار الله، ومن أشهر ما صنف «الكشاف»، وهو تفسير لم يسبق مؤلفه إليه لما أبان فيه من وجوه الإعجاز في غير ما آية من القرآن، ولما أظهر فيه من جمال النظم القرآني وبلاغته، وبرع فيه من المعرفة بكثير من العلوم كالإلمام بلغة العرب وأشعارهم والإحاطة بعلوم البلاغة والبيان والإعراب والأدب، ولقد أضفي هذا النبوغ العلمي والأدبي علي الكشاف ثوباً جميلاً لفت إليه أنظار العلماء وعلّق به قلوب المفسرين. ولقد اعترف له خصومه بالبراعة وحسن الصناعة، وإن أخذوا عليه بعض المآخذ التي يعود أغلبها إلي ما فيه من ناحية الاعتزال، ويُعد «الكشاف» للزمخشري أول كتاب في التفسير كشف لنا علي سر بلاغة القرآن وأبان وجوه إعجازه وأوضح دقة المعني الذي يُفهم من التركيب اللفظي.. كل هذا في قالب أدبي رائع وصوغ إنشائي بديع لا يتفق لغير الزمخشري إمام اللغة وسلطان المفسرين. أبو حامد الغزالي اهتم الغزالي بالتفسير العلمي للقرآن، وعمل علي ترويجه في الأوساط العلمية الإسلامية، ومن أهم كتبه في التفسير «إحياء علوم الدين»، وقيل عنه: من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء، ويروي فيه عن ابن مسعود أنه قال: من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن، ويستفيض في ذلك الغزالي فيقول: العلوم كلها داخلة في أفعال الله عز وجل وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأعماله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، وفي القرآن إشارة إلي مجامعها. ويأتي بعده كتاب «جواهر القرآن» ويزيد فيه ما قرره في الإحياء بياناً وتفصيلاً، ويتحدث عن كيفية تشعب سائر العلوم من القرآن، فيذكر علم الطب والنجوم، وهيئة العالم، وهيئة بدن الحيوان وتشريح أعضائه، وعلم السحر، وعلم الطلمسات ..وغير ذلك، ثم يقول: هذه العلوم ما عددنا وما لم نعد مُغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالي وهو بحر لا ساحل له. الإمام محمد عبده ولد محمد بن عبده بن حسن خير الله سنة 1266ه - 1849م ، ونشأ في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، حفظ القرآن وتتلمذ علي يد شيوخ الأزهر فدرس الفقه والنحو والتفسير. وقد قام الإمام محمد عبده بتفسير القرآن الكريم، بعيداًً عن التقليد بما يوافق روح عصره، ومما أنتجه لنا من عمل في التفسير، تفسير «المشهور» لجزء عم وقد بذل جهده كما يقول: في أن تكون العبارة سهلة التناول، خالية من الخلاف وكثرة الوجوه في الإعراب، بحيث لا يحتاج فهمها إلا أن يعرف القاري كيف يقرأ، أو السامع كيف يسمع،مع حسن النية وسلامة الوجدان. وقد اتخذ لنفسه مبدأ في التفسير يسير عليه، وهو فهم كتاب الله من حيث هو دين يرشد الناس إلي ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرة، وذلك لأنه كان يري أن هذا هو المقصد الأعلي للقرآن، وما وراء ذلك من المباحث فهو تابع له، أو وسيلة لتحصيله. وقد ابتدأ الأستاذ الإمام بأول القرآن في غرة محرم 1317ه، وانتهي عند تفسير الآية 126 من سورة النساء، وذلك في منتصف المحرم سنة 1323 ه، إذا توفاه الله في شهر جمادي الأول من السنة نفسها . سيد قطب ويتميز تفسير سيد قطب بأنه يبدأ عادة بمقدمة طويلة، يجول فيها مع موضوعاته المختلفة، مبرزاً الجو الذي يسود الآية والمحور الذي تدور عليه، متحدثاُ عن أسباب النزول، ثم يشرع في تفسير السورة متناولاً أيها مجموعة بعد مجموعة من الآيات بحيث تشكل كل واحدة من هذه المجموعات موضوعاً كاملاً. أما مراجعه فتضم إلي جانب كتب التفسير المختلفة والحديث والسيرة النبوية والفقه، بعض كتب العلوم الطبيعية والسياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون والكتب التي تعني بشئون الإسلام والمسلمين. ويهتم قطب بالتذوق الأدبي للنص القرآني اهتماماً شديداً، ويتريث دائماً عند الصورة القرآنية يحللها ويبين قوة آثارها في تحويل الفكرة المعنوية إلي مشهد حسي واضح الخطوط عنيف الألوان، كذلك يحرص علي ربط قضايا القرآن بواقع العصر وتقدمه العلمي. الشعراوي عرف بأسلوبه العذب البسيط في تفسير القرآن، فكان يستمع إليه المثقفون والبسطاء علي حد سواء فينفذ كلامه إلي قلوبهم مباشرة، ويبدو معه وكأن الله يفتح عليه وهو يتحدث، ويلهمه معاني جديدة وأفكارا جديدة. ولد الشيخ محمد متولي الشعراوي سنة 1911م، بقرية دقادوس، مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، وحفظ القرآن الكريم في الحادية عشرة من عمره، وكان محباً للشعر والأدب، التحق بالأزهر الشريف نزولاً علي رغبة أبيه، وكان الشعراوي يحب أن يظل في قريته وسط أخواته لزراعة الأرض. كان أول ظهور له علي المستوي العام في التليفزيون هو ظهوره في برنامج نور علي نور للأستاذ أحمد فراج، وكانت الحلقة الأولي ورغم أن الحديث عن أخلاق الرسول وشمائله موضوع قد أثير كثيراً من قبل وتحدث فيه المتحدثون، فإن الناس أحسوا أنهما أمام فكر جديد ومذاق جديد وكأنهم يسمعون هذا الكلام لأول مرة.